يستغرب كثيرون ما يجري في ليبيا فيما الأصحّ هو استغراب كل شيء آخر!
تلك هي تِركة القذافي وخلاصات «ثورته» على مدى أربعين عاماً وأكثر.. وتلك هي «الدولة» التي بناها وتركها خلفه، وتلك هي «مؤسساتها» التي أورثها لليبيين!
والواقع أن شعب ليبيا كان ولا يزال أفضل من نظامه البائد، وأفضل من الحالة السياسية القائمة الآن. بل أكثر: لو لم يكن كذلك لكان الوضع الأمني والمؤسساتي أسوأ بكثير، خصوصاً في ظل مرحلة انتقالية أو تأسيسية تُبنى على حُطام وتبدأ من الصفر.
لم يترك القذافي دولة بالمعنى الطبيعي الحديث كي يستند الليبيون إلى كيانها وبنيانها ومؤسساتها، بل كل ما بناه وسوّقه وصرف جزءاً مهولاً من الثروة الوطنية عليه كان عبارة عن هلوسات أُلبست أثواباً تنظيمية لا تصلح حتى لتنظيم العلاقات بين العشائر والأفخاذ المشتقة منها! ولم يبنِ جيشاً بالمفهوم الكلاسيكي كي يُقال إن تراتبيته ونظامه وأخلاقه وقطاعاته وأسلحته يمكن أن تُضبط على وقع التغيير الذي تمّ، ووفقاً للإرادة السياسية التي جاءت مع ذلك التغيير، بل بنى كل شيء إلاّ ذلك الجيش الوطني القادر: فوق كل تشكيل عسكري «رسمي» مسلّح، كانت هناك صيغة «ثورية» أكثر تسليحاً وتدريعاً وسطوة وسلطة! وفوق كل مؤسسة تقتضي ظروف الدول وعلاقاتها الداخلية والخارجية أن تقوم كانت هناك «هيئة ثورية» أقوى منها وأفعل وأقدر!
الهذيان المؤطّر في ما سمي «الكتاب الأخضر» ترك ليبيا من دون دستور، وجعل من الليبيين حقل تجارب على فنون وأساليب للحكم لا مثيل لها حتى في الصين أيام ماو تسي تونغ وكتابه الأحمر!
لا دولة. لا جيش. لا مؤسسات. لا أحزاب. لا نقابات. لا جمعيات. لا وزارات. لا صحف. لا إعلام. لا محاكم. لا طبابة ولا سياحة.. وحتى لا مخازن تجارية بالمعنى المعتاد والشائع في كل أنحاء العالم! مراكز التسوق سمّيت «تشاركيات» وفيها كل شيء إلاّ ما يطلبه المستهلك الليبي يومياً! من يشعر بالجوع كان عليه أن يأكل صفحة من كتاب «الأخ العقيد»! ومن يشعر بالظمأ كان عليه أن ينتظر انتهاء المرحلة الأخيرة من «النهر العظيم»! ومن يشعر بالمرض كان عليه أن يذهب إلى تونس كي يُعالج ويعرف ما هي علّته!
.. الفلتان المزري الذي ضرب ويضرب «الجماهيرية العظمى» هو في خلاصته نتيجة مُثلى لما فعلته «ثورة» القذافي.. ما كان مقدّراً لكل ذلك الخواء إلاّ أن ينتج كل هذا الخراب. والبائس (غير المفاجئ) هو أن الجماعات «الجهادية» حطّت كعادتها على ذلك الحقل وانتعشت من زوانه المنثور، مؤكدة في الإجمال أنها والعدم سواء: حيث تكون هي، تبور الحياة الدنيا، ولا يعود للخلق إلاّ النظر صوب العُليا، بحثاً عن نور يكشح كل ذلك الظلام!