قيل الكثير من الكلام في عبد الفتاح السيسي. وضعوه بما فيه وبما ليس عنده. كان كلاماً عن مجهول قادم من عتمة «الأمن»، رسموا له صورة من خلال تخيلاتهم ورغباتهم وطموحاتهم ومخاوفهم، ولم تكن الصور تشبهه، مع أنه كان شديد الوضوح، فتقاسيم المرحلة مرسومة في خريطة وصوله إلى السلطة، وفي مصريته المتشددة وفي بقائها كدولة.
رأوا فيه نسخة عن عبد الناصر: صور الزعماء تصير آسرة في لحظات الضياع وأزمنة الفراغ وإلحاح الحاجة إلى قبس خلاص. الشعوب بحاجة إلى الإيمان بالسراب عندما تفتقد القدرة على الصبر وتحمل اليأس وضياع الاتجاهات وانعدام الأفق.
رأوا فيه صورة عبد الناصر، فتفاءل قوم وتشاءم قوم واستهجن قوم ولم يصدِّق كثيرون. فما بين الأول والنسخة، قامة أزمنة وقامات من القيم والقضايا والطموحات. لم تنفع صورة مصافحة «الفتى» السيسي لجمال عبد الناصر. الثاني ليس الأول، ولا هو وريثه. لا يشبه السيسي عبد الناصر، لا مصريا ولا عربيا ولا دوليا، ولا في الزمن الذي يقدم أحياناً منصة لارتقاء الرجال إلى منصة الزعامة…
رأوا فيه انقلابياً على حكم أنتجته ديموقراطية «الصندوق»، فأعطت الأصوات فرصة لقوة غير ديموقراطية، لتحكم مصر وتأخذها من مصريتها إلى إسلاميتها العابرة للدول والأوطان… خلافة من نوع آخر، خلافة بثياب مدنية. ولقد كان ذلك خطيراً، أفضى إلى «ثورة الثلاثين مليوناً، وإلى تأمين النصاب الشرعي، لديموقراطية الشارع (وهي ديموقراطية بحريات خطيرة) ولتقدم السيسي لتزكية نفسه والجيش، للتخلص نهائياً من «ردة الإخوان» وغزوتهم للسلطة. ولقد تم ذلك بالقوة الساحقة، التي أجبرت أهل الميدان إلى التخلي عنه، والامتناع عن مراودته، خوفاً من أن يكون مصيرهم، كمصير «الإخوان».
السيسي ليس غامضاً أبداً. من أفعاله، لا أقواله، تعرفونه. قلما تحدد التصريحات السياسات. الأفعال والوقائع براهين حاسمة لا لبس فيها. من أراد أن يقرأ السيسي من خلال ما أنجزه أو ارتكبه سيجده هو هو على حقيقته:
عسكري أولاً وآخراً وبين بين. يحمي القوات المسلحة وأجهزتها العسكرية والأمنية بالنصوص الدستورية، ويضعها في مقدمة مؤسسات الدولة. الجيش هو حزب السيسي وليس «الميدان». «الميدان» حزب القوى المصرية المدنية والثورية الرائعة والقاصرة عن بلوغ السلطة وإدارة التغيير، لإقامة نظام ديموقراطي يحترم الدستور والقوانين والمؤسسات، ويقيم وزناً للمساءلة والمحاسبة والثواب والعقاب. ويستجيب النظام لحاجات الناس في الحياة الكريمة والحرية والتقدم والتنمية.
شعب الميدان الذي جاء بالسيسي، ليس حزب السيسي، هو اليوم يعيش المرارة والخيبة، وقد يكون على أهبة الاستعداد، ولكن بعد سنوات. فالزمن الراهن معقود للعسكر بقيادة السيسي. ومن علامات عسكريتاريته، تحوّل القضاء إلى إصدار أحكام شبيهة بالأوامر العسكرية: «نفذ ولا تعترض»، وأحكام إعدام بالجملة. والقضاء هنا، أشد فتكاً وإرهاباً من أجهزة الأمن وأجهزة العسكر… ومن إشارات ممارسته القبضة الحديدية، انتظام أجهزة الإعلام المصرية، في حملات مدائح وتقريظ لسيادته، وتشويه وتحطيم واتهام، لكل من يتجرأ على المس، من بعيد، بهيبته وشخصه. تماماً كما كان حكم العسكر قبله وكما سيكون بعده.
كل هذا واضح، وضوح الفعل وفق ترسيمة الممارسة: يريد السيسي إقامة سلطة قوية وقاهرة، لا تسمح بعودة «الاخوان» لا إلى السلطة ولا إلى الحياة السياسية. وإجراءاته القمعية والردعية تكاد تكون، الاستئصالية، تدل على أن فلسفته تقوم على كون المنع هو مكوّن أول للمناعة المصرية.
ويريد السيسي أن يقفل باب الديموقراطية الحقيقية. من هذا الباب تحديداً، تهب عاصفة الحرية فتتحول إلى إعصار إسلامي بصيغ «معتدلة» أو «متصوفة» أو «سلفية» أو «جهادية» أو «تكفيرية» أو «قاعدية» أو حتى «داعشية»… الأصناف التي دفعها الربيع العربي الجميل إلى المقدمة، هي هذه البضاعة.
كأنه مقتنع: الديموقراطية الآن، ليست حلاً، بل خراباً. الديموقراطية يمكن تأجيلها، إذا كانت تهدد الدولة ووحدة المجتمع. ولتذهب حقوق الإنسان والحريات الإعلامية والفكرية إلى النسيان.
نصاب الديموقراطية معطل، بسبب «الإسلامية» المتفشية في السياسة وفي الميادين، والتي أطاحت بدول ومجتمعات وبيئات.
في ظنه، وفي ظن المؤسسة العسكرية التي جاء منها، أن الدولة أولاً. وبهذا المعنى، يكون السيسي في هذه المرحلة، رجل دولة، لا رجل السلطة الديموقراطية. قد يكون الحفاظ على وحدة الدولة، شرطا من شروط بقاء الاجتماع، فيما الديموقراطية غير المستحقة وغير الناضجة، هي سبب من أسباب فرط وتشتت الاجتماع، والدخول إلى الفوضى الفتاكة التي تؤمن للمجهول إقامة دموية وعبثية مزمنة.
قد يبدو هذا الكلام مدحاً للسيسي ونكوصاً عن الديموقراطية والحرية وأحلام ذلك الربيع العربي الجميل بإرهاصاته وبداياته فقط. ذلك الربيع الذي سرقته «إسلاميات» متوعكة سياسياً وموبوءة اجتماعياً، فأدخلت الأمة في جحيم الفتنة، بلا خلاص قريب.
فليكن ذلك مدحاً في السيسي، إنما من دون عفو عن موقفه المخزي من غزة، حيث ظهر وكأنه شريك في العدوان سياسياً، بعد اشتراكه وإصراره على إبقاء الحصار وعدم فتح معبر رفح، فليكن مدحاً موضعياً فقط، إنما مع إدانة لموقفه من عدوان حربي هائل من قبل إسرائيل على شعب غزة، وليس على «حماسها»، وهو ما استنكره عالمٌ عالمي، من قلب الغرب إلى قلب أميركا الشمالية والجنوبية، إلى عمق آسيا، (من دون المرور بالعرب المشغولين بتقطيع شرايينهم بسيوف المذاهب). فليكن مدحاً موقتاً على الأقل بالسيسي، مع استنكار لسياسة كم الأفواه لقوى التنوير وفتح المعتقلات لثوار «الربيع المصري»، وسياسة إحكام «القبضة الحديدية» القضائية، التي تحظى برعاية عسكرية وأمنية. فليكن مدحاً هزيلاً ولكن حقيقياً، من دون عفو عن سياساته الاقتصادية التي تعيد حكم مبارك إلى الصدارة برجالاته، في السياسة والإعلام والاقتصاد والسرقة والنهب المشرعن والمحصّن.
فليكن مدحاً كمنحة، لأن السيسي، أنقذ مصر فعلياً من إمكانية التفتت ومن الانزلاق إلى الفتنة. ففي مؤتمر صحافي جمعه مع الرئيس الإيطالي، تلفظ السيسي بما يلي: «أطلب من الأوروبيين أن ينظروا إلينا بعيون مصرية… قمنا بإجراءات أمنية محاولين إقامة توازن مع حقوق الإنسان… انظروا حولنا ماذا حل بالدول المحيطة بنا». كأنه بذلك يشير إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال و…
يستحق السيسي مدحاً، فقط في هذا المجال. وليس هذا مجالاً عابراً. فمن دون دولة، لا نظام ولا سياسة ولا حرية ولا ديموقراطية ولا أمن ولا حياة…
الدولة السورية باتت في خبر كان. الدولة العراقية كذلك، اليمن على الحافة، ليبيا جحيم… أما لبنان، فهو من دون دولة من زمان، عرسال وحدها هزته، فماذا لو…