Site icon IMLebanon

قراءة موضوعيّة في زيارة البطريرك الراعي للأراضي المقدّسة

بعيداً عن التحدي والصراخ من فوق السطوح لا بد من قراءة موضوعية لزيارة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي للأراضي المقدسة.

لم يحد البطريرك منذ اعتلائه سدة البطريركية المارونية عن الخط التاريخي لبكركي وما يمثله ويختزنه من قيّم ومبادىء وثوابت وطنية وكنسية، وظل دائماً منسجماً مع نفسه وقناعاته واسلوبه الخاص في مقاربة الأمور والمسائل وإدارتها. فقد أضاف البطريرك الراعي من «عندياته» بانه كان ومازال صاحب مبادرات وقرارات شجاعة يمضي قدماً بها دون الالتفات إلى تهجم من هنا وتحامل من هناك. هذا ما فعله بعيد تسلمه كرسي البطريركية عندما بادر إلى فتح صفحة جديدة مع «حزب الله» ولم يأبه لأصوات ترتفع مشككة ومنتقدة هذا الانفتاح. وهذا ما فعله ايضاً عندما قرر زيارة دمشق لأسباب ودوافع راعوية في عز احتدام الأزمة والحرب هناك وفي ظل انقسام عميق بين مؤيدي النظام والمعارضة في سوريا وفي لبنان ولم يأبه لأصوات صادرة عن المعارضة السورية أو عن بعض قوى 14 آذار التي انتقدت الزيارة وخلفياتها واضعة إياها في سياق الصراع الدائر في سوريا وفي خدمة النظام… وهذا ما فعله اخيراً عندما قرر زيارة الأراضي المقدسة في فلسطين المحتلة لتفقد احوال رعيته وابنائه وحثهم على الصمود والتشبث بالأرض والحقوق والبقاء، من ضمن الوجود في الشرق، أصحاب دور ورسالة وقضية…

إذن ذهب البطريرك الماروني إلى الأراضي المقدسة مهد المسيحية لأستقبال خليفة بطرس ورأس الكنيسة الكاثوليكية قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس الأول وتفقد رعيته، وسبقت الزيارة انتقادات وحملات ألبست الزيارة لبوساً سياسياً ليس لها.

كل تلك الانتقادات والتأويلات أدت إلى تسييس الزيارة واضفاء الطابع السياسي عليها وتصويرها على غير ما هي عليه.

زيارة البطريرك الراعي، وكما رأها فلسطينيو الـ (48)، كانت بمثابة تظاهرة تضامن مع كل من يعاني الظلم والقهر وكانت صرخة مدوية ضد سياسة اسرائيل وظلمها وان ظلت «صرخة في البرية».

ذهب البطريرك إلى الأراضي المقدسة ليزور رعيته وكان من الطبيعي ان يلتقي بعائلات لبنانية اضطرت إلى النزوح قسراً واللجوء إلى اسرائيل، وان كل ما قاله البطريرك من كلام في هذا اللقاء يدعو إلى الرحمة والتسامح والعدالة والمصالحة. وهذه كلها قيّم وتعاليم سماوية لا يستقيم عيش مشترك ولا يقوم وطن من دونها، وليس كما فسرها بعض «المتزمتون» بأنه كلام تحدٍ لشريحة لبنانية متناسيين ان النازحين هم من جميع الطوائف مسلمين ومسيحيين.

قالها البطريرك الراعي بكل ثقة وايمان وبصوت مرتفع في خلال زيارته التاريخية إلى الأراضي المحتلة « أرضنا هي هويتنا ورسالتنا وتاريخنا». ويجب ان نتمسك بها. ويجب علينا عدم ترك أرضنا لأننا على هذه الأرض كتبنا تاريخنا. وإلى التمسك بالأرض، الأرض المقدسة، مهد المسيحية ومركز اشعاعها إلى العالم، رافضاً تهويدها وطمس معالمها وتراثها وتاريخها، دافع البطريرك الراعي عن القضية الفلسطينية حيث طالب وبصوت عال بحل عادل ودائم على أساس «حل الدولتين» وقيام دولة فلسطينية مستقلة.

هذا ما قاله وفعله البطريرك الراعي في فلسطين المحتلة حيث كان شديد الحرص على عدم الأفساح في المجال أمام أي استغلال سياسي للزيارة من جانب الاسرائيليين وعلى عدم الوقوع في «افخاخ» اسرائيلية وعلى ابقاء اللقاءات والانشطة ضمن إطارها الديني والرعوي… ولكن ما قاله وفعله البعض في لبنان انهم أساؤوا إلى الزيارة وذهبوا بعيداً في حملتهم إلى حد التعرض لبكركي والتشكيك بوطنية البطريرك الراعي وتخوينه حتى وصل الأمر بأحدهم الطلب إليه ان يعتذر عن « زيارته» إلى ما هنالك…

هذا المنحى الاعتراضي مرفوض شكلاً ومضموناًَ. فالأمر لم يعد رأياً مخالفاً للزيارة وانما أضحى تهجماً وتطاولاً على بكركي ومقام البطريركية، والحملات التي تشن تجاوزت كل الحدود والأصول وبدت حملات «سخيفة وعمياء» لا بد وان تؤتي بنتائج عكسية للقائمين بها.

والسؤال المطروح هنا على ماذا يريدون ان يعتذر البطريرك؟

هل يعتذر رأس الكنيسة المارونية لأنه سعى من خلال هذه الزيارة إلى اعطاء المسيحيين الفلسطينيين والعرب بارقة أمل ورجاء في ظل ظروف قاسية وصعبة يعيشونها؟

هل يعتذر لأنه نجح في الابتعاد عن كل ما كان يمكن ان تستغله اسرائيل ووضعه في خانة التطبيع؟

نقولها للقاصي والداني لا يحق لأي كان ومهما علا شأنه ان يتطاول على شخص البطريرك ومقام البطريركية وان يعطيه دروساً في الوطنية وان يملي عليه ما يجب وما لا يجب فعله وقوله.

البطريرك الماروني هو الأدرى والأخبر بدوره ومهامه ومسؤولياته الكنسية وهو الذي يتخذ قراراته منسجماً مع قناعاته ومبادئه ومتحملاً المسؤولية أمام الله وشعبه والتاريخ. ونقولها بكل صدق وصراحة ان البطريرك الراعي، وبعد تجربة قصيرة أمضاها في سدة البطريركية حتى الآن، هو الأعرف بأجواء رعاياه وهواجسهم وقضاياهم، وهو الأجرأ في اتخاذ القرارات الصعبة وهو الأشرف في بيئة لبنانية تعج بسياسيين فاسدين وانتهازيين يعملون ضد مصلحة وطنهم وشعبهم من خلال ارتهانهم لدول أجنبية ومن ثم وبكل وقاحة نراهم يوزعون شهادات في الوطنية للغير.

وهنا وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فاني أسأل هؤلاء المعترضين والمنتقدين كيف يمكنكم الاعتراض على زيارة صاحب الغبطة إلى فلسطين فيما موفد البطريرك إلى الأراضي المقدسة المطران موسى الحاج يزور فلسطين كل شهر ويتابع عمله الرعوي هناك. فهل نعترض على زيارة الأصيل فيما الوكيل يزور الأراضي المقدسة شهرياً لخدمة أبناء رعيته؟

البطريرك الماروني هو الذي يعطي دروساً في الوطنية وهو الذي يحدد الخيارات وخارطة الطريق للبنان السيد والمستقل. وما يصدر عن بكركي من مواقف وتطلعات هو المعيار المعتمد في تصنيف القوى والقيادات والأحزاب التي كلما اقتربت من مواقف بكركي تكون قد اقتربت من كلمة الحق وجادة الصواب والصراط المستقيم.

ليس لأحد ان يتدخل في شؤون بكركي وعملها وان يملي عليها ما يجب عمله. فهل يقبل الآخرون التدخل في شؤون مرجعياتهم الدينية وممارسة ضغوط عليهم؟ فليكن معلوماً أنه لا يحق لأي جهة ان تمارس التحريض ضد بكركي وسيدها لأن في ذلك مساً بقواعد ومبادىء العيش المشترك والوحدة الوطنية وتصرفاً غير مسؤول وغير متزن وأرعن.

على الجميع ان يتصرفوا بعقلانية وواقعية وهدوء وتروٍ، وان لا يدعو الانفعالات والغرائز والعصبيات تأخذ مداها وتفلت من عقالها. على الجميع ان يدرك بعمق حجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق بكركي في الدفاع عن وجود وحقوق المسيحيين في هذه المرحلة الخطيرة التي يجتازونها وفي هذا الشرق الذي تتقاذفه الأمواج والعواصف وفي ظل تطورات سياسية وأمنية متلاحقة تشهدها المنطقة بدءاً من فلسطين مروراً بسوريا والعراق والانعكاس السلبي لهذه التطورات على المسيحيين بصورة خاصة، من هنا على القوى السياسية كل القوى السياسية دون استثناء عدم التعاطي مع البطريرك كما انه واحد من السياسيين، وان يتفهموا دوره ورسالته في احقاق الحق والعدالة ومساعدة المظلومين الذين هم ضحايا مصالح الكبار وشرورهم.

النازحون اللبنانيون في اسرائيل ينتمون إلى جميع المذاهب والطوائف وعلى الدولة ان تتحمل مسؤولياتها تجاه هذه الشريحة فيتم إحالة المجرمين والمتورطين والملوثة أياديهم بدماء اللبنانيين إلى المحاكمة كما سبق وحصل مع عملاء آخرين أما أسرهم وأولادهم مما اجبرتهم الظروف على مغادرة لبنان، فلا يمكن ان تنطبق عليهم صفة العمالة.

لقد تخلت الدولة عن دورها في حماية مواطنيها وأبنائها اولئك الذين اجبرتهم ظروف الاحتلال على التعاطي بشكل أو بآخر مع العدو من هنا فلا يجوز ان « يؤخذ» الصالح في جريرة «الطالح». ما ذنب الأبرياء الذين قذفت بهم الحرب إلى اسرائيل بطريقة قسرية وظالمة؟ ما ذنب الأولاد والأبناء حتى يدفعوا ثمن اخطاء كبارهم وأبائهم؟ وبأي حق وشرع ودين يحرمون من أرضهم ووطنهم ويجبرون على التطبع والاندماج في مجتمع غريب عنهم لا يمت إلى تقاليدهم وتراثهم وتاريخهم بصلة…

ما فعله البطريرك الراعي أنه أضاء شمعة في ظلام وظلم، وأعطى بارقة أمل ورجاء وتحرك حيث قصّرت الدولة في واجباتها وحاول ملء بعض الفراغ وتعويض الكثير من التقصير والاهمال الرسمي اللبناني في حق لبنانيين يريدون العودة إلى وطنهم ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً… وهذا التقصير والاهمال والغياب من جانب الدولة اللبنانية ليس جديداً وانما يعد «مرضاً مزمناً» وهو الذي دفع ابناء القرى الحدودية إلى حمل السلاح والدفاع عن ارضهم ووجودهم عندما لم تقو الدولة على حمايتهم واستبيحت سيادتها وسلطتها منذ منتصف السبعينات على يد «السلاح الفلسطيني» وعندما كانت «فتح لاند» تتمدد في الجنوب وعندما كان الجيش اللبناني يواجه التشرذم والتفكك مقدمة لضرب الدولة والوحدة الوطنية وتقسيم لبنان…

وفي الختام وعلى أمل ان لا تكون حادثة لاسا من ضمن الرسائل الاعتراضية على زيارة البطريرك وعلى أمل ان يتنبه القائمون بهذا العمل ومن ورائهم إلى خطورة ما يقومون به من شحن للنفوس وتحدٍ لشريحة كبيرة من الناس، لا بد لنا من القول بأن البطريرك الراعي أراد خلال زيارته الرعوية والكنسية وكلامه عن اللبنانيين الذين يعيشون في فلسطين المحتلة بعيدين عن أهلهم وقراهم وأرضهم التذكير ربما بأنه لا يجوز ان تكون الدولة اللبنانية مستنفرة بكل قواها وامكاناتها في سبيل النازحين السوريين ولا تفعل شيئاً من اجل النازحين اللبنانيين للتخفيف من معاناتهم وحل قضيتهم؟…

فلنقرأ الزيارة بعمق ولا نخلط السياسة بالعمل الرعوي والكنسي والانساني.