مهم جداً التوقف عند كل الاعتراضات التي أثيرت في وجه اقتراح ميشال عون تعديل الدستور اللبناني، لناحية كيفية انتخاب رئيس الجمهورية. والأهم البحث في مقدار الجد والجدية فيها، والإفادة من نقدها البنّاء، وتفهم الأبعاد الميثاقية أو الدستورية أو حتى السلطوية الكامنة خلفها، قبل الرد عليها.
إعتراض أول رفع في وجه اقتراح عون، يقول إن انتخاب الرئيس من قبل الشعب هو تغيير جذري لطبيعة النظام اللبناني، وانقلاب عليه ونقله من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. مسألة تستحق كل تدقيق. بدءاً بالسؤال: هل النظام اللبناني برلماني نموذجي فعلاً، وفق المثال المعلم أكاديمياً و«ماجسترالياً» حول هذا النظام؟ طبعاً لا. يكفي، كما يتعلم تلميذ الرياضيات في صفوف التكميلي الأولى، ان تجد دليلاً واحداً معاكساً لفرضية بحثك، لتخلص وتجزم بأن الفرضية ساقطة. وعندنا، يكفي في هذا المجال أن تتذكر أن السلطة التنفيذية وفق الدستور اللبناني، لا تملك الحق الدائم، نكرر الدائم، لحل السلطة التشريعية، في موازاة الحق الدائم، نكرر أيضاً الدائم، والمحفوظ للسلطة التشريعية بإسقاط السلطة التنفيذية عبر حجب الثقة عن الحكومة، لنؤكد أن دستورنا لا ينص على نظام برلماني خالص. فما يعرفه الجميع ويعترفون به خارج مواسم المزايدات السياسية، أن نظامنا خليط هجين. شيء من نصف رئاسي، مع شيء من الأورلياني، مع الكثير من «اللبناني بامتياز». إذاً، وبداية، لسنا أمام نظام برلماني ليتم الانقلاب عليه.
ثم واستطراداً، من قال إن كيفية انتخاب الرئيس تحدد الفارق بين نظام برلماني وآخر رئاسي؟ ثمة شيء من الطفولية الدستورية، إن لم نقل من الأمية الدستورية في الذهاب نحو هذا الحكم. مثلان أخيران من حولنا، كي لا نعيد أساطين النيو ــــ دستوريين إلى مفصلات بوردو وإخوانه. مثل أول قدمته تركيا سنة 2007. كان دستورها مثلنا، ينص على انتخاب رئيس الجمهورية من البرلمان. وكان أفضل من طائفنا المخردق ثغراً وفجوات. كان الأتراك دستورياً، إذا عجز نوابهم عن انتخاب رئيسهم بعد دورات محددة، يصير برلمانهم محلولاً حكماً، ويدعون فوراً إلى انتخابات تشريعية مبكرة، على أمل الإتيان ببرلمان جديد قادر على ملء الشغور الرئاسي. رغم ذلك، وقعوا في أزمة مثل أزمتينا المتكررتين سنتي 2007 و2014. عندها قرروا تعديل دستورهم. وذهبوا إلى انتخاب رئيس من الشعب مباشرة. ولم يخرج من يقول إنه انقلاب على النظام، من برلماني، كما كان ولا يزال، إلى رئاسي! مثل ثان قدّمته لنا ليبيا. نعم ليبيا اليوم. ليبيا الفوضى المطلقة والعدم شرعي والكايوس الدستوري، ذهبت قبل اسابيع إلى تعديل دستوري ينقل آلية انتخاب الرئيس من النواب إلى الشعب، في نظام برلماني. أما الأسباب في المطرحين، فهي هي التي طرحت عندنا: الخروج من أزمة عدم توافق القوى السياسية الداخلية على رئيس، وإنقاذ البلاد من التدخلات الخارجية والضغوط العابرة للسيادات، أو الخارقة لها، في فرض رئيس مخروق من رأسه حتى قدميه!
يبقى في هذه المقولة الاعتراضية الأولى على اقتراح عون، عنصر واحد يبدو صحيحاً، أن انتخاب الرئيس من الشعب يعطيه تفويضاً أكبر في السلطة. لكنه فعلياً تفويض معنوي، لا دستوري. وقد يكون ذلك هو الجواب المطلوب على أمرين اثنين: أولاً جواب على هذه الكذبة الفارغة في دستورنا عن كون الرئيس «هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور»… الدستور نفسه الذي لا يعطي الرئيس أي صلاحية موازية لصلاحية مدير عام، من جهة. كما هو الجواب من جهة ثانية، على ذلك الاعتراف المتبادل من قبل كل اللبنانيين، بأن دستور الطائف مختلّ التوازن وغير سليم وغير سوي. وإلا لماذا ظل رعاته السوريون كما غنمه البلديين، يعرضون على البطريرك صفير، نعم البطريرك صفير، سلة تعديلات دستورية شهيرة، كل مرة كانوا يلتقون فيها على ذبح الدستور نفسه؟! هكذ يمكن لاقتراح عون أن يسد هاتين الثغرتين، عبر اقتراح بسيط محدود، يقتصر على آلية انتخاب، من دون لا ثورة ولا تغيير ولا انقلاب.
اعتراض ثان ضد مشروع عون، فبركته إحدى الصحف الوهابية، عن أن انتخاب رئيس من الشعب يفرض تغيير آلية عزله. كلام يُعذر أصحابه لجهة ما بعد ما بعد الأمية الدستورية. فهم لم يسمعوا بكلمة دستور منذ ولدوا. والأرجح أنهم لن يفعلوا، طالما أن «طويل العمر» قادر على التوليد.
إعتراض ثالث طرحه أحد النواب. يقول: مجنون ميشال عون! ألا يدرك أن دستورنا لا ينص على مارونية الرئيس؟! وبالتالي إذا ترك انتخابه للشعب، من يضمن عدم انتخاب رئيس غير ماروني أو حتى غير مسيحي؟! فظيعة عبقرية الإدراك هذه. ترى ألم يتنبه القائل إلى أن اقتراح عون يقضي بأن يُنتخب الرئيس من بين مرشحين اثنين اختارهما المسيحيون في دورة أولى؟ وبالتالي إذا بلغنا يوماً يمكن للمسيحيين أن يختاروا مرشحاً رئاسياً من خارجهم، نكون قد صرنا في سابع السماوات. حتى ولو اختاروا في دورة أولى مرشحاً مسيحياً غير ماروني، نكون على الدرب الصحيح، بإلغاء المذهبية على طريق إلغاء الطائفية.
يقول اعتراض ثالث إن اقتراح عون قد يصح في حالة تحالفه مع حزب الله. لكن ماذا في زمن آخر؟ ماذا لو اجتاز الدور الأول مرشحان مسيحيان، نال أحدهما أكثرية مسيحية ساحقة، والآخر أقلية مسيحية هزيلة. ثم جاء المسلمون في الدور الثاني ليرجحوا الهزيل على القوي؟! معقول؟! ألا يقرأ هؤلاء لا في النصوص ولا في الواقع؟! أولاً، في الدور الثاني ليس المسلمون من ينتخبون وحدهم، بل كل اللبنانيين. والمسلمون في لبنان، حتى يوم ننسى فيه عمرو العاص وأبو موسى، لبنانيون أولاً، ومن ثم هم «مسلمونان». وبالتالي فإن أي حساب «أكتواري» يظهر عدمية هذا الخطر، الذي ليس أصلاً خطراً.
يبقى أجمل اعتراض على اقتراح عون، ما قاله أحد بوليفاريي 14 آذار، الذي كان قد جثا سابقاً على قدمي إميل لحود من بيروت حتى ريو دي جانيرو، هذا بعد أعوام قليلة على كتابته بخط يده فرمان حل حزب سمير جعجع في حكومة رفيق الحريري… يقول الرجل إن اقتراح عون مفصّل على قياسه. ماذا يعني ذلك؟ أن عون هو فعلاً الأقوى مسيحياً ولبنانياً؟ هل هذه هي المشكلة والعقبة والتهمة؟!
قبل أن يطرح عون فكرته، روى أنه يشهد اليوم ثالث استحقاق رئاسي من موقع المعني. وفي المرات الثلاث، سنة 1988 وسنة 2007 والآن، جاءه كل سياسيي البلد، وكل أقطابه، وكل المعترضين صحافياً والمتفذلكين وبهلوانيي المواقف والتموضعات. وكانوا كلهم يسألونه: هل تحدثت مع الأميركيين في موضوع ترشيحك؟ هل جسست نبض السعوديين؟ لماذا لا تفكر بزيارة للمصريين؟ ماذا يقول الفرنسيون حيال شخصك؟ هل السوريون مضمونون، أو الإيرانيون متحمسون؟ يقول عون: لم يقل لي مرة سياسي واحد أو دبلوماسي أحد معتمد في بيروت: هل سألت شعبك ما رأيه حيال ترشيحك؟ اليوم قررت أن أسأل شعبي. وألا اسأل عن الباقين… رهان قد يكون خاسراً مرة ثالثة، خصوصاً إذا قُدر لهذ الوطن أن يظل المرجع الأدق لكتابة تاريخه المفصل والجامع، وثائق ويكيليكس.