كان أحد السفراء البارزين في بيروت، يمسك بعناية شديدة ورقة وحيدة في يده. يقرأ بداية تاريخ مضمونها: إنه 19 حزيران 2014. بعد أقل من عشرة ايام على اجتياح «داعش» للموصل وبعض العراق. يتابع السفير قراءة العنوان: كلام الرئيس الأميركي باراك اوباما حول الوضع في بغداد بعد ذلك الحدث بالذات. يقرأ الدبلوماسي العتيق ولا يعلّق. كانت عيناه تتولى الترجمة لسامعه والتفسير والتأويل. كان يقرأ كلمات أوباما، لا كأنها عبارات في عجالة صحافية. بل كأنها مجموعة ألغاز وطلاسم تكشف في اسرارها المكتومة كل المحظور. كأن كل ما يحصل راهناً في العراق وسوريا وبعض الأراضي الفلسطينية المحتلة…
وكأن كل ما استجدّ في لبنان وما قد يستجدّ أو ينفجر فيه لاحقاً، كل ذلك مكتوب في تلك الأسطر القليلة. جاء على لسان الرئيس الأميركي ما حرفيته التالي: «أعتقد أنه فيما على القادة العراقيين اتخاذ قرارات، كنا نُسمع إيران. لقد حددنا أنه من المهم لهم تجنّب خطوات قد تشجع الانقسامات المذهبية التي قد تقود إلى حرب أهلية. وما يجب التأكيد عليه أن لدينا خلافات عميقة مع إيران على امتداد قضايا كثيرة. الأرجح أن ما يحصل في سوريا هو جزئياً نتيجة للتدخل الإيراني الوازن والساخن لصالح طرف واحد. والأرجح أن على إيران ان تأخذ في الاعتبار واقع انه إذا كانت رؤيتها للمنطقة محصورة في الاطار المذهبي، ستجد نفسها تحارب في أماكن كثيرة. والارجح ان ذلك ليس جيداً للاقتصاد الايراني ولا للشعب الايراني على مدى ابعد»…
يتوقف السفير الخبير عن القراءة، يعطيك نص كلام أوباما كاملاً، كمن يسلّمك كتاب فك شيفرات الحرب السرية ــــ الراهنة أو المقبلة ــــ على بلادك. أول دروس فك الألغاز الأميركية، أن كل كلمة يقولها سيد البيت الأبيض، تحمل معنى ومغزى ورسالة. لا كلمة مجانية، لا مفردة عشوائية. لا حرف أو فاصلة في معرض اللغو أو الحشو. ثاني الدروس أن اللغز، مثل الطلسم، يتسم بالكتابة المخفية. يُكتب معكوساً. على قاعدة التناقض بين ظاهره وباطنه، بين معلنه ومضمره. من هنا تبدأ القراءة والفهم والفكفكة: يقول أوباما أنه أسمع كلامه للإيرانيين. كيف؟ عبر الإعلام؟ عبر وسطاء، أو أثناء المفاوضات النووية المباشرة؟ أم… عبر الرسائل الميدانية على الأرض؟ وعلى أي أرض؟ في الموصل أم في سوريا أم في غزة أم… في عرسال؟ وفي السياق نفسه يبدو أوباما حريصاً على عدم وقوع «انقسامات مذهبية قد تقود إلى حرب أهلية». هل يعني ذلك أن الدولة العظمى تعيش حالة من الحرص المسكون بالعجز؟ هل هي حريصة على عدم انفجار البلدان والشعوب ووقوع المذابح الأهلية، لكنها عاجزة عن تجنب ذلك؟ أم أنها تقول، باللغة المعكوسة، إن هناك صراعاً بينها وبين إيران على مصالح ونفوذ، وإنها تهدد إيران بوضوح، وإنها فيما تفاوضها، ستعمل بشكل متواز للضغط عليها عبر تفجير كل ساحات الحروب المذهبية من حولها وحيث تضع أقدامها؟ قبل أن تحذّرها وتذكّرها بأضرار ما تقدر على إلحاقه بها، على اقتصادها وعلى شعبها؟ لا يتأخر الساحر الأميركي في كشف لعبته: إذا استمرت طهران في موقفها ستجد نفسها غارقة في القتال على جبهات عديدة. من سيفجّر تلك الجبهات في وجهها؟ هل تنفجر تلقائياً؟ عشوائياً؟ عفواً من دون قصد ولا عمد؟ ثم أين هي تلك الجبهات المحتملة؟ في العراق، انفجرت أصلاً. في سوريا، سبق الفضل منذ أكثر من ثلاثة أعوام. في غزة؟ تُرى هل كان رئيس الدولة العظمى في العالم يتنبأ بأن «مجهولين» سيقتلون بعد 11 يوماً من كلامه، ثلاثة مستعمرين صهاينة كانوا قد اختطفوا قبل كلامه بأسبوع، وأن قتلهم سيفجّر القطاع، وأن أحداً لن يتوقف بعد الانفجار أو يهتم وسط بحر الدم بمعرفة من خطفهم وقتلهم؟ يبقى لبنان، هل كان أوباما، بقدرته نفسها على رؤية المستقبل، يتوقع أن يتخذ أحدهم في بيروت قراراً بتوقيف أحد رؤوس تنظيم «القاعدة»، من دون اتخاذ أي إجراءات احترازية لمواجهة أي ردود فعل إرهابية على ذلك؟ هل كان يتنبأ بأن إرهابياً مطلوباً، كان يمتلك خطة «ب» لاحتمال توقيفه وتفجير لبنان من وسط بقاعه رداً على احتجازه، فيما الدولة الكاملة التي بادرت إلى توقيفه، لم تكن قد احتاطت لا بخطة «ب» ولا حتى بخطة «ي» لمواجهة ردود الفعل على خطوتها ومبادرتها؟ فيسقط الشهداء الأبطال من حطب جيشنا المظلوم دوماً، ثم يقف سلفي ليصفهم بلواء الولي الفقيه، قبل أن يصير السلفي المدّعي نفسه وسيطاً بين الدولة وجيشها من جهة، وبين والجلادين والإرهابيين من جهة أخرى… خوفاً من «الانقسامات المذهبية» التي تنبأ بها أوباما، وتجنباً لجحيم «الحرب الأهلية» التي يحرص سيد واشنطن على تجنبها وإن يعجز عن تحقيق ذلك أحياناً، غالباً أو دائماً؟!
لماذا هناك دوماً في حوادثنا كمية هائلة من المصادفات، أكبر من أن تتسع لها الحقيقة العارية؟ تُرى، هل لأن خليفة ريغان يستحق دوماً أوسكار أفضل مخرج، أياً كانت رداءة الشريط المكرر والسيناريو والحوار والمشخصاتية والكومبارس من مسؤولينا؟ المهم الآن، ألا يفكر أحد، أياً كان لقبه أو عمامته، بالطموح إلى نيل نوبل للكيمياء، لأنه تمكن من أن يحول دماء شهدائنا، إلى لا شيء، أو أدنى من اللا شيء.