الشغور في عامه الأول.. الأفق ما زال محجوباً من بعبدا؟
كل دروب رئاسة الجمهورية تعود إلى الصفر!
ستكون وقفة ميشال عون اليوم امام البرتقاليين الوافدين الى دارته ليخطب فيهم، بمثابة جرعة من «اكسير الحياة». ستتجدد كل عروقه وخلاياه، لا بل ستصغر أكثر من عشرة أعوام.
من يعرف الجنرال جيداً يدرك أنّ المنبر الأحب الى قلبه هو الذي يُنصب أمام الجمهور مباشرة من دون حواجز، فيطلق العنان لصوته ولحركة يديه، ولخطابه استطراداً. اليوم سيتسنى له أن يكون على سجيته، فيستيعد شريط الذكريات العتيقة ويعيد احياء طقوسها.
قبل ساعات من حلول الذكرى السنوية الاولى لجلوس «فخامة الفراغ» على عرش الرئاسة، يتحضر المرشح الماروني الاول للذهاب أكثر في معركة تصعيده، وفي باله هدف واحد: الكرسي المخملي. ساذج من يعتقد أنّ تعقيدات الداخل المشبوك على تفجيرات الخارج، أصابته بالاحباط، أو هزّت عزيمته، أو أسقطت الحلم الرئاسي من رأسه.. أو حتى دفعته الى البحث عن «خطة ب».
بعد 364 يوماً من الشغور، لا يزال ميشال عون مرشحاً معلناً، وبقوة. يعتقد أنّ بين يديه ورقتين يمكن التلويح بهما للضغط على خصومه، وجرّهما الى مربع التفاهم معه، على قاعدة انتخابه رئيساً للجمهورية: الحكومة والشارع.
استخدم سياسة الجزرة، مع «تيار المستقبل» تحديداً، من خلال حوار مفتوح أترفه الغنج والدلال من خلال التسهيلات التي قدمها العونيون للزرق، لكنها لم تؤتِ ثمارها. ولذا سيحاول الجنرال، اعتماد سياسة العصا.
خلافاً للمرحلة الماضية، حيث لم يكن الوقت سلاحاً بأيدي أي من الأطراف، قد يواجه ميشال عون خلال الأسابيع المقبلة سيف الوقت، غير المرتبط به، وانما بتقاعد العميد شامل روكز. سيضطر الرجل لمواجهة خيار صعب، اما دفع ثمن غال لإيصال روكز الى قيادة الجيش، وهذا ما يحاول خصومه فرضه عليه وفق معادلة الرئاسة مقابل القيادة. وإما التنحي عن تسجيل الهدف، فينتقل قائد فوج المغاوير الى نادي التقاعد.
ولهذا فإنّ المهلة الفاصلة عن هذا الموعد، مصيرية جداً. بهذا المعنى، يعتقد الجنرال أنّه مجبر على استخدام لغة التصعيد. هكذا راح يستدعي دورياً ناسه للوقوف أمامه ملوحين بالأعلام البرتقالية وهاتفين باسمه، لإنذار الآخرين بأنه لا يزال قادراً على استخدام ورقة الشارع في حال اقتضى الأمر، وذلك بالتزامن مع تهديده بنسف هيكل الحكومة من أساساتها.
ولكن، من يغوص عميقاً في مترتبات هذا الخيار، ومدى تفاعل الآخرين معه، يتيّقن أنّ ورقة الحكومة غير مضمونة الفعالية، مع أنّ «آباءها» يخشون فعلاً انفراط عقد آخر المؤسسات العاملة، ولو بالقطارة. ويتبيّن وفق المتداول به أنّ هناك أكثر من سيناريو لردة الفعل العونية:
– أن يستقيل الوزيران العونيان، فيتكافل معهما وزيرا «حزب الله» و «الطشناق» و «المردة»، أي ما مجموعه ستة وزراء. ما يعني بالمفهوم القانوني والميثاقي أنّ الحكومة لا تعتبر مستقيلة، لكنّ أعمالها قد تتعرض للتجميد تبعاً للاتفاق المعمول به مع رئيس الحكومة.
– أن يعتكف هؤلاء ويجلسون في منازلهم، الى حين ايجاد مخارج لائقة تعيدهم الى البيت الحكومي، ما يعني أيضاً أن الحكومة لن تسلم روحها، وقد تقوم من بين الركام في أي لحظة.
وفي الحالتين، ثمة كلام عن احتمال ايجاد «مظلات» سياسية تبرر عمل الحكومة حتى لو بغياب ستة وزراء، مستقيلين أو معتكفين، بحجة أنّ السلطة التنفيذية هي المؤسسة الوحيدة التي لا تزال على قيد الحياة.
– أن يصار الى «المناكفة» من داخل الحكومة.
ولهذا يبدو أنّ الجنرال لم يحسم قراره بعد، أي تفرّع سيسلك في ما لو أتت لحظة حسم مصير قيادة قوى الأمن الداخلي، من دون أن يستلّ التزاماً واضحاً وصريحاً من «الحريريين» بأنهم سيصوتون لروكز في أيلول المقبل؟
إذ بينما كانت الأصداء تشي بأنّ المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم الجمعة الماضي، قد يشهد على تفجير قنبلة نوعية، راح الرجل باتجاه إطلاق مبادرة، لا تحمل فعلياً أي جديد، ولكن تبغي كسب بعض الوقت وملء الفراغ.. بخلاصة معروفة سلفاً.
في المقابل، يعتمد «تيار المستقبل» سياسة الترقب، متسلحاً بحكومة تمام سلام لتمرير الوقت المستقطع. وحده سعد الحريري مستعجل لطبخ اتفاق يعيده الى السرايا، أما البقية فلا تبدي حماسة لتقديم أي تنازل. ولهذا، تبدو حجارة الشطرنج مجمدة في مكانها.
ولكن لو كانت الاعتبارات المحلية هي الغالبة، لكان بالإمكان البحث عن صيغ تفاهمية تخرج الشغور من القصر الرئاسي. لكن إصرار القوى اللبنانية على ربط مصيرها بالقطار الإقليمي المعلّق، زاد من تعقيدات الملف الرئاسي.
كان يفترض أن يكون العام 2005 محطة مفصلية في المسار اللبناني، لا بل معبراً انتقالياً من حضانة الوصاية السورية ببركة دولية الى رُشد الإدارة الذاتية للشؤون المحلية، لكن اللبنانيين أثبتوا أنهم عاجزون عن فك ارتباطهم بالخارج، وتركوا أنفسهم في ثلاجة الانتظار ريثما تنجلي الصورة الاقليمية.
وما زاد من صعوبة الوضع، هو انتقال الوضع الاقليمي من حال الحرب الباردة الى حال الاشتباك الساخن، فرُبطت كل ملفات المنطقة ببعضها البعض، من اليمن، الى العراق وسوريا، وصولاً الى لبنان، ما استحال فكّ أي منها عن بقية حبات العَقد.
تحتفظ الدول المتشابكة، بأوراقها في جيبها، وترفض أي منها التقدم خطوة الى الأمام من باب تقديم أي تنازل على خطوط الاشتباك، بينما اللبنانيون يربطون مصيرهم بلعبة التجاذب الإقليمية للاستقواء بها، ومحاولة فرض توازن جديد لتغيير المعادلة المحلية.
ولكن في المقابل، لا يحمل لبنان الا عنواناً واحداً بالنسبة لدوائر القرار الدولي، وهو الحفاظ على الاستقرار الأمني، من دون إيلاء أي أهمية إضافية لبقية الملفات السياسية حتى لو كانت من نوع رئاسة الجمهورية.
وبالفعل، فإنّ اتفاق الدوحة الذي كان نتيجة أحداث 7 أيار، أعاد انعاش هذه المعادلة كمخدر لا أكثر، من باب تطويق التوتر الأمني وحصر بقعة زيته. ولهذا كان بالإمكان حينها، انتخاب رئيس توافقي للجمهورية. الأمر الذي لا يتوفر في هذه اللحظة.
بنظر دوائر القرار الدولي، تقوم حكومة تمام سلام بمهمة الإبقاء على الستاتيكو القائم، وكل ما هو مطلوب منها دولياً هو الحفاظ على الوضع ممسوكاً… حتى إشــعار آخر. أما الرئاسة فلا ترد على أجندة أي من الدول المعنية بالملف اللبناني.
وبالنتيجة، فإنّ «الاحتفال» بمرور سنة على الشغور الرئاسي، لا يفتح الباب أبداً أمام سيناريوهات متفائلة أو بامكانها اجتراح مخارج تفاهمية، الا إذا قرر أحد اللاعبين اختراق السقف المرسوم للعبة الداخلية أو الخروج عن السكة الإقليمية.