Site icon IMLebanon

كيف قضَت حروب العراق على المسيحيّين؟

أتَت فصول العنف في العراق منذ الاجتياح الأميركي عام 2003 على الحجر والبشر، وهجّرت عدداً كبيراً من العراقيّين. فكلّ موجة عنف كانت تُقابلها موجة هجرة، إنّما تضاؤل العدد ظهرَ جليّاً في صفوف المسيحيين تحديداً، فباتوا أقلّية مهدّدة في محيط مشتعل. فقد زادت سيطرة التنظيمات المتطرّفة، ومن ضمنها «داعش»، على بعض المحافظات حيث يتمركز المسيحيّون في شكل أساسي، في وقت باتَ مصير الدولة العراقية برُمّتها على المحَكّ.

أحداث وظروف كثيرة جعلت من مسيحيّي العراق الأسوأ حالاً بين مسيحيّي العالم العربي. ففي بلدٍ يعاني انقسامات حادّة وأوضاعاً أمنية متردّية، لم يسلم المسيحيّون من الاضطهاد والعنف وصولاً إلى القتل على الهوية، في ظلّ احتدام النزاع السنّي- الشيعي في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً، نتيجة تداعيات الحرب السورية التي غذّت عدم الاستقرار والفوضى في البلاد وزادت من هواجس المسيحيّين، ودفعتهم إلى الهجرة بحثاً عن أمان فقَدوه في دولتهم.

يسكن الجزء الأكبر من المسيحيين العراقيين في بغداد والموصل وفي المدن الكردية، وقد هاجر نحو 800 ألف منهم على الأقلّ خلال الأعوام العشرة الماضية. وكان رئيس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم البطريرك لويس ساكو أكّد خلال مداخلته في السينودس من أجل الشرق، أنّ نسبة الكاثوليك في العراق تراجعَت من 2.89 في المئة عام 1980، إلى 0.94 في المئة عام 2008.

مسيحيّو الموصل و«داعش»

إنّ دخولَ «داعش» مدينةَ الموصل في 9 حزيران الماضي وتصاعُدَ المواجهات العسكرية بينه وبين القوات العراقية في محافظات عدّة، وضعَ المجتمعَ العراقي في حال خوفٍ وترقّب، ما انعكسَ على وضع المسيحيّين الهَشّ.

وفي هذا الإطار، يؤكّد رئيس أساقفة الموصل للسريان الكاثوليك مار يوحنا بطرس موشي، الموجود حاليّاً في بلدة قرة قوش جنوب شرق الموصل، أنّ «الوضع هادئ في المدينة، ولا تعَدٍّ على الناس هناك»، موضحاً لـ«الجمهورية» أنّ «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي سيطر على المنطقة يؤكّد لقاطنِي محافظة نينوى عموماً، وللمسيحيين خصوصاً أنّه ليس ضدّهم وأنّ هدفَه إسقاط الدولة فقط». ويلفت موشي في المقابل إلى «أنّ هذه التطمينات، لم تحُل دونَ تحطيم التنظيم تمثالَ السيّدة العذراء في فناء كنيسة الطاهرة للكلدان».

وكان رئيس أساقفة الموصل للكلدان المطران إميل شمعون نونا اعتبرَ أنّ «تحطيم التمثال يندرج ضمن حملة تحطيم التماثيل والمنحوتات في أنحاء المدينة، كون التصوير والتجسيد مخالفَين للشريعة الإسلامية».

إلى ذلك، يؤكّد موشي أنّ «التنظيم أصبح هو الدولة والمسيطر، فارضاً تعليماته، ومِن بينها الحجاب الإسلامي على النساء»، نافياً «امتلاكَه معطيات عن طَرقِ المقاتلين أبواب قاطني المدينة بحثاً عن نساء للزواج، ولم ينقل إليّ أحدٌ من مسيحيّي الموصل هذه الصورة».

وضع ضبابيّ وتهجير

ويؤكّد موشي أنّ «الخوف يسيطر على أبناء الموصل والمناطق المجاورة، ولم يبقَ سوى بضع عائلات مسيحية هناك، فيما توجّهت غالبية العائلات إلى عنكاوا وأربيل وقرة قوش حيث تحتضن الإكليريكية السريانية 35 عائلة مهجّرة»، مُشدّداً على أنّ «المستقبل المجهول يجعل هذه العائلات تتردّد في العودة إلى منازلها في الموصل».

من جهة ثانية، يقول مصدر كنَسي عراقي لـ«الجمهورية»، رفضَ الكشفَ عن اسمه، أنّ «وضع القاطنين في الموصل بعد 13 حزيران الماضي صعبٌ، وهم في حال ترقّب مَشوب بالخوف». ويصف حال المسيحيّين تحديداً بـ«الكارثي والداعي إلى القلق»، لافتاً إلى «أنّهم صُدموا جرّاء دخول المسلّحين تزامُناً مع خروج الجيش». وفي حين يرى «أنّ انتشار الشائعات زعزع المواطن الموصلي وأصابَه بالضياع»، يوضح المصدر أنّه «وبعد خروج أكثر من نصف مليون شخص من المدينة، بينهم مسيحيّون كُثر، عاد بعضُهم بعد أيام معتقدين أنّ الوضع لا يدعو إلى القلق، لكنّهم غادروا مجدّداً بعد أنباء عن عزم الجيش قتالَ المسلحين». ويُلمِح المصدر إلى ضبابية الوضع، «لأنّ الجيش لم يدخل المدينة حتى الساعة ولم نسمع بمبادرة سياسية لتهدئة الوضع والحوار مع من يمسك بزمام الأمور لمعرفة حقيقة توجّهاتهم وهويتهم».

خشية من المواجهات

من جهته، يُعرب المعاون البطريركي للسريان الكاثوليك ورئيس أساقفة الموصل سابقاً المطران مار جرجس القس موسى لـ«الجمهورية» عن قلقه من «أيّ مواجهات مسلحة يمكن أن تطرأ في المستقبل»، موضحاً أنّ «جماعة احتلّت المدينة، ولا ندري إذا كانت الحكومة المركزية ستترك الوضع على ما هو عليه، أو ستتفاوض مع المحتلّين على طاولة حوار بهدف إخراجهم، أو أنّها ستواجههم بقوّة السلاح. وهذا ما نخشاه»، آملاً أن «تسير الأمور بأقلّ خسائر ممكنة».

وعن سيطرة تنظيم «داعش» على محافظة نينوى، يعتبر موسى أنّ «الناس يتناوبون على الحكم، وهذه ليست مشكلة طالما إنّ حقّ البشر في الحياة محفوظ، فما يهمّنا هو ألّا يموت الناس»، ويشدّد على «أنّنا نستطيع التعايش مع أيّ نظام شرطَ احترامه حياتنا وحقوقَنا كمواطنين، وإذا اعترفوا بحقّ الناس في الحياة وبمعتقدِهم وحرّيتهم مهما كان عنوانهم فليكن». ويطلب موسى من الله «أن تكون المحنة قصيرة، وأن يعود سكّان هذه المنطقة إلى بيوتهم، لأنّ الناس الذين تركوا بيوتهم لم يأخذوا سوى الضروري».

قلق أوروبّي

وفي حين ألمَحَت بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق إلى أنّ تنظيم «داعش» يُدمّر الحضارة والثقافة بهدف إلغاء الآخر عبر إحراقه كنائسَ عدّة وهدم قبر المؤرّخ الإسلامي الكبير ابن الأثير الجزري في الموصل، يعود إلى الأذهان مشهد الدمار الذي طاولَ كنائس ومقدّسات سوريا في الرقّة ومعلولا وحمص القديمة، وتدمير كنائس مدينة كسب. وإن كان لا بدّ من الحديث عن الحجر إلّا أنّ معاناة البشر تبقى الهاجس الأبرز في ظلّ مصير مجهول يحيط بسريان الموصل وكلدانها وأرمنِها وأشوريّيها الذين فرّوا إلى إقليم كردستان وبلدة القوش التي تبعد عن الموصل خمسين كيلومتراً شمالاً، أو غادروا نينوى بحثاً عن مكان يضمن أمنَهم وبقاءَهم. ويبقى السؤال مطروحاً حول مصير الذين اختاروا البقاء لحماية بيوتهم ومقدّساتهم وخوفاً من هجرة لا تضمن لهم مستقبلاً.

الحكومة تحاصر

ويلفت أبٌ كاثوليكيّ من الموصل لـ«الجمهورية»، فضَّلَ عدم الكشفِ عن اسمه، أنّه في حين «تكوّنت عند عدد من أهالي المدينة صورةٌ مقبولة للوضع خلال الأيام الأولى من سيطرة تنظيم «داعش» الذي لم يرتكِب ما يخيف الناس، فاتحاً الطرقَ والمنافذ التي أغلقها الجيش، عمدَت الحكومة بعد حصارِها المدينةَ إلى قطع الكهرباء والماء وخطوطَ الاتصال وشبكة الإنترنت، ما ساهمَ في تردّي الوضع، وأجبرَ المواطنين على الخروج من المدينة للتواصل، أو على استخدام شبكات بديلة لم يتمّ فصلها».

أمّا موشي فيَرى أنّ «الوضع في الموصل لناحية الكهرباء والمياه أفضلُ بكثير من الوضع في المناطق المحيطة بها»، مشيراً إلى «انقطاع الكهرباء والمياه في قرة قوش لأنّ مصدرَهما في الموصل باتَ تحت سيطرة التنظيم»، لافتاً إلى أنّ «داعش سيطرت على مشروع مياه نهر دجلة».

الصمود أو الهجرة

ويؤكّد الكاهن الكاثوليكي أنّه «خدمَ في الموصل في أقسى الظروف الأمنية بين العام 2007 و2010 حينما خُطف مع كاهن زميلٍ له، وعاد لمتابعة رسالته في الكنيسة بعد إطلاقِه»، مذكّراً بأنّ «الكنيسة حيث يخدم في الموصل تعرّضت سابقاً لثلاثة تفجيرات في غضون شهر، وعلى الرغم من ذلك لم يهرب، وبقيَ فيها». حالُ هذا الكاهن الصامد والشجاع تشبه حالَ العديد من كهنةِ ومؤمني العراق، إلّا أنّ بينهم مَن غفلتهم يد الغدر وسرقت حياتَهم، فبات مقتلهم وسيلةً تخيف بقيّة المسيحيين وتدفعهم إلى الهجرة.

تاريخ مكلّل بالشهادة

حوادث دموية كثيرة طاولَت مسيحيّي العراق، وُصِف عددٌ كبير منها بجرائم الحرب وبالجرائم ضدّ الإنسانية، وكان هدفُ بعضِها «ضرب الراعي لتتبدَّد الخراف»، ومن أبرزها:

– قتلَ مسلّحون مجهولون الأب رغيد كني وثلاثة شمامسة في الموصل عام 2007، أثناء خروجهم من الكنيسة بعد قدّاس الأحد.

– قتلُ المطران بولس فرج رحو رئيس أساقفة الموصل للكلدان الكاثوليك والعثور على جثته في ضاحية المدينة عام 2008 بعد أسبوعين على اختطافه، عندما حاوطت ثلاث سيارات الكنيسة مطلقةً النار على سيارته، فمات حرّاسُه، وخُطف أمام عشرات الشهود.

– أمّا الضربة الأقوى فأتت بعد أسبوع على اختتام السينودس من أجل الشرق الأوسط «شركة وشهادة» الذي دعا إليه البابا بندكتوس السادس عشر، للبحث في تثبيت مسيحيّي الشرق في أرضهم، إذ ما لبثَ السينودس أن اختتم أعماله حتى ألمَّت بمسيحيّي العراق في 31 تشرين الأوّل 2010 مجزرة بربرية طرحت الأبرياء والمؤمنين شهداء على مذابح كنيسة سيّدة النجاة في بغداد بعدما باغتتهم يد الغدر أثناء مشاركتهم في القدّاس، حاصدةً 37 قتيلاً بينهم كاهنان ونساء وأطفال. أرعبَت هذه المجزرة أبناء القطيع الصغير في بلاد ما بين النهرين مرسّخةً الشركة والشهادة بالدم، وقد كانت كفيلة وحدَها بتهجير عشرات الآلاف من المسيحيّين في العراق على الرغم من دعوات الأساقفة إلى الصمود.

وتشير الإحصاءات إلى أنّه ومنذ العام 2003، قُتل 1000 مسيحيّ وخُرِّبت وفُجِّرت أكثر من 100 كنيسة ومعبد ودير في العراق، إلّا أنّ هذه الجرائم ظلّت بلا عقاب.

وفيما تجدر الإشارة إلى أنّ معظم مآسي المسيحيّين العراقيين لم تأتِ صدفةً بل وقفت وراءَها عقول مخطّطة هدفُها زرع الخوف في قلوبهم، لم يملك المسيحيّون يوماً الإمكانات للحدّ من هذا التعامل الهمَجي معهم… إلّا الرحيل.