نأى أكراد العراق بأنفسهم عن صراع السنّة والشيعة. في البداية حصّنوا إقليمهم. واليوم تدفعهم ديكتاتورية المالكي وتيوقراطية «داعش» إلى خيارات تحميهم من الطروحات التوسّعية، فلا يكونون «فرق عملة» أو مادة مساومة. فهل يمكن للواقع المسيحي- والدرزي- في لبنان أن يكون على طريق النموذج الكردي؟
بعدما تجاوب الفرنسيون والبريطانيون مع المطالب الكردية في فرساي عام 1918، وأقرَّت معاهدة سيفر في 1920 قيام دولة كردية على جزء من كردستان التاريخية، جاءت معاهدة لوزان عام 1924 لتُلحِق تلك الدولة بالكيان العراقي.
فدولة «كردستان الكبرى»، بـ400 ألف كيلومتر مربع، وبأكثر من 30 مليون نسمة (اليوم)، مفتوحةً على البحر، وتختزن موارد نفطية ومائية وميزات سياحية، من شأنها أن تتحوّل عملاقاً إقليمياً يخشاه الأتراك والإيرانيون ولا يريده الغرب. ومنذ عشرات السنين، والأكراد مسجونون في عراقِ صَدّام ثم المالكي، وسوريا الأسد ثم الأسد، وتركيا أتاتورك ثم أردوغان، وإيران بهلوي ثم الخميني.
على النقيض، كان مسيحيّو لبنان يسلكون الإتجاه المعاكس. وفيما كان الأكراد يُمنَعون من تحقيق «كردستانهم الكبرى»، كان مسيحيو لبنان يغادرون «لبنانهم الصغير»، بملء إرادة بطريركهم الماروني الياس الحويك، إلى «لبنانٍ كبير» يريدونه «لبنانهم». وإذ فرض الإنتداب مصير الأكراد، بالتواطؤ عليهم، إختار مسيحيو لبنان بإرادتهم أن يغادروا جبلهم المسيحي – الدرزي.
واليوم، الجميع يُراجع حساباته. فالأكراد يحققون حلمهم في إستعادة شخصيتهم. وبينهم يحتضنون آلاف الكلدان والأشوريين، ورثة الإمبراطورية المندثرة في بلاد ما بين النهرين. وأما مسيحيّو لبنان فيحدِّقون في المشهدين اللبناني والإقليمي: هل هي التفسخات الآيلة إلى إنهيار حلمهم بـ»لبنان الكبير»؟
لم تكد تنتهي وصايةُ السوريين على لبنان، حتى بدأت تظهر حقيقة الأزمة. فليس إحتلالهم هو الذي كان- حصراً- يمنع قيام صيغة مستقرة. كان يكفيهم أن يستثمروا الغرائز الطائفية والمذهبية المقيمة في اللبنانيين أنفسهم. ومع الإنفجار المذهبي الإقليمي، تفلّتت الغرائز المذهبية في لبنان. ويتّجه الشيعة والسنَّة تدريجاً إلى الإنخراط الكامل في الحرب الشاملة.
فالطرفان يقاتلان ميدانياً في سوريا، والعراق في درجة أدنى. ودخلت الحالة السورية – العراقية بكامل عقائدها وتعقيداتها إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة، أو الزائلة، بمقاتليها ولاجئيها. فلا المجهادون الشيعة ولا الجهاديون السنّة يعترفون بحدود لبنان. وتظهر تباعاً ملامح إسقاط الجمهورية اللبنانية، التي أسّسها المسيحيون، ليكون على أنقاضها بناء جديد، ليس واضحاً دور المسيحيين فيه، أو الدروز!
رئاسة الجمهورية رهينة، وكذلك المجلس النيابي والحكومة وسائر المؤسسات. وكل بنود الدستور والقوانين والأنظمة باتت وجهة نظر. وكل الإستحقاقات الدستورية باتت مجرد مواعيد في روزنامة الأوهام.
هذا الإهتزاز العنيف يهدِّد الخيار المسيحي، أو الحلم المسيحي بـ»لبنان الكبير»، ويطرح على المسيحيين والدروز اللبنانيين تحديات إستفزازية: هل كانت المراهنة على مغادرة جبل لبنان التاريخي في محلِّها؟
وإستطراداً، وفيما يخرج الأكراد من سجنهم تدريجاً مع تقسيم العراق أولاً والبقية لاحقاً، يلتقي غالبية المسيحيين اللبنانيين، في إختلاف توجهاتهم وإنقسامات زعمائهم، على رفض السقوط في خيار التقسيم القاتل. لكنهم يؤمنون بأن البقاء في القطار الإنحداري السريع، الذي تكرّسه الصيغة الحالية، سيوصل إلى الجحيم. وبين الخيارين المتطرفين، هناك مجال لآخر عقلاني، من شأنه توفير الحماية والعدالة للجميع، أي لحماية حلم المسيحيين بكيانٍ هم رافعو شعاره، أي الـ10452 كلم2.
ويقول البعض إن انقسام القادة المسيحيين يعوق تحقيق الخيارات المسيحية الإستراتيجية. لكن آخرين يعتقدون أن القوى الإقليمية، التي شجعت إنقسام هؤلاء، ستشجع إتحادهم عندما يصبح هذا الإتحاد حاجةً لمشروعها. فكل ما يجري داخلياً مبرمج خارجياً!
والمسيحيون اللبنانيون، أحفاد مسيحيّي 1920، عليهم أن يثبتوا أن أجدادهم هؤلاء كانوا على خطأ أم على صواب. وفي معايشتهم للخيار الكردي، الذي يساهم في تحقيقه رجال أعمال لبنانيون مسيحيّون، يصبح على مسيحيّي لبنان أن يجيبوا عن السؤال الآتي: هل هم قادرون على أن يكونوا «أكراداً» في وَعيِهم لمستقبلهم، وكيف، وأي مسؤولية تقع عليهم وعلى زعمائهم لبلوغ ذلك؟