توقفت دوائر القرار والتحليل في “حزب الله” عند الابعاد التي انطوى عليها كلام وزير الخارجية الاميركي جون كيري في السرايا الحكومية والذي حض فيه روسيا وايران و”حزب الله” على فعل شيء ما لمعالجة الوضع في سوريا، ووجدت فيه على مستوى الشكل الكثير من العلامات الفارقة.
من العلامات الفارقة ان كيري ساوى بين “حزب الله” ودولة عظمى وبينه وبين دولة اقليمية. وهذا في ذاته اعتراف بدور الحزب الممتد اقليمياً وبارتقائه الى مستوى يتجاوز مستوى حزب محلي.
– ان كلام كيري خلا تماماً من اللغة الأميركية العدوانية حيال الحزب الموصوم دوماً في خطاب المسؤولين الاميركيين بالارهابي.
– ان تصريح كيري بهذا الخصوص بدا لوهلة وكأنه استجداء او مناشدة للأطراف الثلاثة لولوج باب الحل للأزمة السورية.
– ولا ريب انه لا يمكن تجاهل هذا الكلام ومكان قوله واللحظة السياسية لاطلاقه، فهو لم يكن عابراً بل كان كلاماً مكتوباً وقيل في بيروت، وبالتالي اتى بعيد ساعات من اجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا التي اعتبرتها الادارة الاميركية صفراً.
اذا من حيث الشكل ثمة تطور نوعي انطوى عليه كلام كيري في زيارته المفاجئة والعاجلة للعاصمة اللبنانية، أما من حيث الجوهر والمضمون، فقد وجدت تلك الدوائر ايضاً اكثر من علامة فارقة في طيات ذلك الكلام الاميركي الذي ما زالت اصداؤه تتردد في كل الأوساط والكواليس السياسية اللبنانية على ضفتي 8 و14 آذار.
ومن ابرزها:
– ان ثمة “تفهما” اميركيا لمسألة ولوج “حزب الله” الميدان العسكري في سوريا، وما تداعى عن ذلك الدخول.
– ان ذلك الكلام هو على المستوى الأعمق يتماهى مع تحولات تدريجية خفية وخفرة بدأت الادارة الاميركية تجريها في الآونة الاخيرة. ففي افغانستان انفتحت قنوات التواصل والاتصال بين الادارة العسكرية الاميركية وحركة طالبان التي كانت دوماً نموذج العدو للادارة الاميركية، وهذا الامر بدأ يتضح انه يتخطى مسألة مبادلة عسكرية ليصير لاحقاً كلام على محاولة جذب لـ”طالبان” الى الشراكة السياسية في كابول، وهو امر إن اخذ سياقه المنتظر سينهي حالة عداوة عمرها اكثر من عقدين من الزمن وتخللتها حروب ضروس.
– ان البراغماتية الاميركية عينها تجد بصماتها في فلسطين نفسها حيث ثمة من يرى ان الرئيس الفلسطيني ما كان بامكانه ان يجرؤ على ردم فجوة علاقته المزمنة مع حركة “حماس” والدخول معها في حكومة شراكة سياسية بعد طول انقطاع لو لم يكن قد حصل على ضوء اخضر اميركي وغربي خفي عموماً من شأنه ان يفتح الأبواب لاحقاً امام أمور اخرى دراماتيكية، تعيد تأهيل العلاقة ضمن اطار ما بين واشنطن والحركة الاسلامية الفلسطينية الأبرز والأقوى. والأمر لم يعد بعيداً أو يدرج في خانة المستحيل، فواشنطن نفسها غازلت طويلاً “رحم” حركة “حماس” اي جماعة “الاخوان المسلمين” وكان لها العديد من محطات التلاقي في مصر وتونس وليبيا قبل ان ينفرط عقد الأمور وتنقلب الصورة نتيجة حسابات ورهانات اخرى طرأت بفعل “جشع” “الاخوان” وتلهفهم لتلقف السلطة والاستحواذ عليها ظناً منهم انها اللحظة التي لا تتكرر. ولا شك ايضاً ان “حزب الله”، وبناء على هذين القراءة والتحليل، لم ينسق مع استنتاج فحواه ان واشنطن قررت اخيراً اسقاط جدار العداوة والقطيعة التاريخية مع الحزب، وبالتالي الذهاب واياه في رحلة تفاهم لها اول وليس لها آخر، فثوابت واشنطن معلومة من الجميع وليست في وارد التخلي عنها والتحلل منها في هذه العجالة، ولكن الجلي في الأمر ان الدوائر عينها عثرت في طيات كلام كيري وقبلاً في زيارته المفاجئة في هذا التوقيت بالذات على جملة رسائل مضمرة شاءت واشنطن ايصالها الى من يعنيهم الامر في الساحة اللبنانية والى المعنيين بشؤون هذه الساحة، وابرز ما فيها:
– ان واشنطن قد بدلت من جوهر سياستها ونهجها بالتعاطي مع الساحة اللبنانية، الى درجة انها صرمت حبل علاقتها الوثقى مع فريق سياسي لبناني هو فريق 14 آذار. ومصداق هذا التحليل ليس فقط في تعمد كيري، كعادة اسلافه، لقاء اركان هذا الفريق، بل انه يتجسد ايضاً في نهج السفير الاميركي الحالي الذي يتسم بالهدوء والروية والنأي عن آفة الاستفزاز خلافاً لاسلافه السابقين.
– ان واشنطن تبرهن بشكل غير مباشر على ان باب حوارها مع طهران ما برح مستمراً وثمة رغبات في استمراره.
– ان كيري لم يحمل معه توجهات محددة أو وعودا معينة، بل حمل معه توجهاً عاماً مفاده ان المطلوب الآن ترسيم الحدود بين الساحتين اللبنانية والسورية على نحو تبقى معه الساحة الاخيرة على حالها من المراوحة والستاتيكو، وبالتالي التكيف مع حال الفراغ الرئاسي، الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فالساحة اللبنانية لم تعد أولوية عند الادارة الاميركية.
“حزب الله” كان الاسرع في التقاط موجة تصريحات كيري، في حين ان الآخرين ما زالوا عند حدود “الصدمة” من هذه التصريحات.