كيف يمكن الموارنة أن يوصلوا رئيساً قويّاً للجمهورية كما تفعل الطوائف الأخرى من دون أن يتفقوا على مرشح واحد، ولا حتى على جعل الاقتراع السريّ يغربل المرشحين بحيث ينسحبون لمن ينال أصواتاً أكثر ويظل مستمراً في الترشح إلى أن يفوز بالأكثرية المطلوبة ولا ينسحب لأي مرشح يوصف بأنه ضعيف؟ أليس هذا ما فعلته الطائفة الشيعية عندما اتفقت على أن يكون الرئيس نبيه بري هو المرشح الوحيد وكان لا بدّ حتى لمن لا يؤيده أن يقترع له؟ أوَليس هذا ما فعلته الطائفة السنية أيضاً عندما سمَّت مرشحاً واحداً لرئاسة الحكومة فكان مرّة الرئيس فؤاد السنيورة ومرّة الرئيس سعد الحريري؟
أما طرح معادلة يقترحها “عونيون” تأتي بالأقوياء على رأس السلطات الثلاث بحيث يكون العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية والرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة والرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، فهي معادلة ليست عادلة ولا هي متوازنة، ذلك أن رئيس الجمهورية ثابت في منصبه ست سنوات، ورئيس المجلس ثابت في منصبه أربع سنوات قابلة للتجديد، أما رئيس الحكومة فغير ثابت في منصبه وهو خاضع لحجب الثقة عن حكومته في أي وقت ومصيره خاضع لاستقالة أكثر من ثلث عدد الوزراء لا بل لمجرد استقالة وزراء من أي طائفة وإلا أصبحت حكومته غير ميثاقية.
لذلك فإن الحق في عدم وصول رئيس قوي للجمهورية هو على الزعماء الموارنة أنفسهم والحق عليهم أيضاً إذ ظل منصب الرئاسة الأولى شاغراً لعدم اتفاقهم على مرشح واحد أو لعدم حضور جلسات الانتخاب من دون عذر شرعي بذريعة الحؤول دون فوز مرشح غير مرغوب فيه.
هذا الوضع الذي تشهده البلاد اليوم لم يكن سائداً في الماضي. فالمرشحون لرئاسة الجمهورية لم يكن يتجاوز عددهم الاثنين: مرشح عن الموالاة ينافس مرشحاً عن المعارضة وكلاهما قويّ: فبشارة الخوري كان ينافسه إميل إده وكميل شمعون لم ينافسه أحد، واللواء فؤاد شهاب نافسه العميد ريمون إده، والشيخ بشير الجميل لم ينافسه أحد وكذلك شقيقه الرئيس أمين. ونافس المرشح رينه معوّض رئيس حزب الكتائب جورج سعادة والنائب الياس الهراوي فنال معوض 36 صوتاً وسعادة 16 صوتاً والهراوي خمسة أصوات. وعندما لم ينل أحد منهم الغالبية المطلقة رفعت الجلسة لمدّة ربع ساعة للتشاور واستؤنفت لاجراء عملية الاقتراع في الدورة الثانية بعد الانسحاب لمعوض الذي فاز بغالبية 52 صوتاً ووجدت ست أوراق بيضاء. وعند انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية نال 46 صوتاً ووجدت 4 أوراق بيضاء وورقة ملغاة باسم النائب ادمون رزق. ونافس سليمان فرنجيه المرشح الياس سركيس ففاز عليه بصوت واحد.
هكذا كانت تجرى الانتخابات الرئاسية في الماضي وحتى في زمن الوصاية السورية إذ لم يكن عدد المرشحين للرئاسة الأولى يتجاوز الاثنين أو الثلاثة، ولم يكن النصاب موضوع بحث وجدل، ولم يكن سلاح في يد أي حزب أو تكتل أو مرشح يهدّد به بل كان حضور النواب جلسات الانتخاب أمراً طبيعياً وواجباً وطنياً والتغيب من دون عذر شرعي تفريطاً بوكالة الشعب وحقوقه. أما اليوم فبات عدد المرشحين للرئاسة الأولى لا يحصى وحظوظ من يوصفون بالأقوياء شبه معدومة لأن أياً منهم لا ينسحب للآخر كي يستقر الخيار على مرشح قوي واحد ينافسه مرشح قوي آخر تكون الكلمة الفصل بينهما للأكثرية النيابية المطلوبة، وأصبح تأمين نصاب جلسات الانتخاب سلاحاً في يد كل من يريد أن يكون رئيساً أو لا يريد وإلا فلا جلسات يكتمل فيها النصاب… فيستفيد من ذلك من يريدون التخلص من وصول أي مرشح قوي لتقع القرعة على مرشح تتوافق على اختياره الأكثرية فيصبح رئيساً قد يملك ولا يحكم، وإذا كان حكماً بين متخاصمين فانه قد يخل بالتوازنات الداخلية فتهب عندئذ في وجهه الأزمات التي تحول دون تشكيل حكومة إلا بعد أشهر عدة وبعد تنازلات متبادلة تأتي بحكومة التسويات.
إن على الزعماء الموارنة إذا كانوا يريدون فعلاً إيصال رئيس قوي للجمهورية أسوة بالطائفتين السنية والشيعية أن يتفقوا على مرشح واحد منهم، وإذا تعذّر ذلك بدعوى أن كل واحد منهم يدعي أنه أقوى من الآخر، فليتركوا عندئذ للنواب اجراء عملية الاقتراع السري التي تغربل المرشحين ومن يفز بالعدد الأكثر من الأصوات يكن هو المرشح الوحيد أو المرشح المنافس لمرشح آخر فتأخذ اللعبة الديموقراطية عندئذ مداها ويكون الفوز لمن ينال الغالبية المطلقة من عدد النواب. أما أن يظل المرشحون للرئاسة لا يعتمدون آلية عملية لاختيار مرشح واحد أو أكثر ويهدّدون بتعطيل نصاب الجلسات فإنهم يتحملون وحدهم مسؤولية إحداث فراغ في أعلى منصب ماروني في الدولة وجعل الحكومة التي تنتقل إليها الصلاحيات معرضة للانفجار من الداخل في أي لحظة، فيقع عندئذ الفراغ القاتل وعندها لا يبقى مناص من التمديد مرّة أخرى لمجلس النواب أو يضطر الخارج حرصاً على لبنان أكثر من اللبنانيين، إلى أن يفرض عليهم رئيساً يظل أقل ضرراً من الفراغ.