Site icon IMLebanon

لا بقاء للأسد ولا عودة للقذافي

 

نشبت في ليبيا اضطرابات هائلة ليس منذ أشهر، بل منذ نحو السنتين. وكما كان بشار الأسد قد أنذر السوريين بأنه إن لم يبق فلن تبقى سوريا! فكذلك كان القذافي قد أنذر الليبيين أنه إن لم تبق «سلطة الشعب» (تأملوا: سلطة الشعب، أي هو وأولاده!) فلن تبقى ليبيا، وستنشأ عشرات الدويلات القبلية والأصولية!

كان محمد حسنين هيكل (الذي لا يكاد يقول شيئا صحيحا إلا عن غير قصد!) قد قال في «تشخيص» شخصية القذافي وسلطته عندما بدأ الاتفاق مع الولايات المتحدة والغرب على النووي ولوكيربي في مطلع القرن الحادي والعشرين: «إن القذافي عمل لأكثر من عشر سنوات على تعزيز الشأن العربي، والموقف العربي. ثم عمل لأكثر من عشر سنوات في نقض ما حاوله في عقد سلطته الأول. وهو في عقد سلطته الثالث، عمل بلا هوادة على التصالح مع الولايات المتحدة، ومسالمة جيرانه الأوروبيين وإرضائهم». ومع أن الأميركيين والأوروبيين كانوا شديدي الرضا عنه عندما اندلعت الثورات؛ فإنهم بعد التشكك والتلبث بشأن تونس وثورتها، وأقل بشأن مصر – قرروا بالإجماع الدخول على خط «الربيع العربي» بالمشاركة في إسقاط القذافي بالقوة. وكان السبب المعلن حماية المدنيين الليبيين من البطش والإبادة. ولو كان ذلك صحيحا، فلماذا ما حموا الشعب العراقي من البطش، وما حموا حتى الآن الشعب السوري من الإبادة؟! في حالة الشعب العراقي كانوا هم الذين شنوا الحرب على الدولة العراقية والشعب العراقي، ثم عندما انسحبوا من العراق سلموه لإيران التي ما كانت أكثر رحمة أو حرصا منهم على الشعب والدولة. وفي حالة سوريا كانوا هم (والأميركيون على وجه الخصوص من بينهم) الذين ارتأوا إشراك روسيا وبوتين في «حل الأزمة» كما قال كيري مرة، وتقبلوا الإنذار الإيراني بأن سوريا هي منطقة نفوذ لهم، ولن يسمحوا بخروجها من أيديهم مهما كلف الثمن! وقد انسحب الأميركيون أولا، ثم انسحب وراءهم البريطانيون، وتكأكأ الفرنسيون بحجة العجز وما باليد حيلة، في حين ما تدخل الألمان أصلا، وما قطعوا علاقاتهم بالمخابرات الأسدية. وكان أقصى ما دخل فيه الأميركيون في الملف السوري مقررات «جنيف 1» عندما كان الثوار السوريون يتقدمون. وعندما جاء بوغدانوف الروسي في أواخر عام 2012 إلى لبنان لمقابلة حسن نصر الله على مشارف تدخل «حزب الله» في سوريا، قال لمن رأوه من اللبنانيين: «إن موقف الأميركيين لا يختلف كثيرا عن موقفنا، وإلا فاستصرحوهم بشأن التدخل الإيراني في سوريا»! أما عودة الأميركيين الآن للتظاهر بدعم المعارضة، فعلَّته هجوم بوتين عليهم في أوكرانيا.

لماذا تدخل الأميركيون والأوروبيون في ليبيا إذن؟ تدخلوا لثلاثة أسباب: أن الربيع العربي صار ظاهرة لا يجوز أن يبقوا خارجها، والقذافي ضعيف ولا صديق له عربي أو غير عربي مستعد للمسارعة إلى نجدته، وأن ليبيا دولة بترولية على المتوسط، وينبغي أن تبقى بأيديهم دون شراكة – وأن ليبيا مفتاح أفريقيا، وإذا اضطربت ليبيا فقد يتدفق ملايين من أفريقيا على أوروبا عبر شواطئها. ولذلك فقد كنت أقول للأصدقاء الليبيين الذين اشتد قلقهم بعد تفاقم ظاهرة المسلحين من «القاعدة» وغير «القاعدة»: إن العرب والأوروبيين لن يسمحوا بسقوط الدولة الليبية من أجل أمنهم، إنما عليكم أن تهتموا بالمسار المدني الذي تجلى في انتخابات المجلس الوطني، وتشكيل لجنة كتابة الدستور. والذي حصل أن السياسيين الليبيين انقسموا على خطوط قبلية وحزبية، مثلما انقسم العراقيون لذات الأسباب مضافا إليها الطائفية والمذهبية والاختراق الإيراني. وبدلا من إعطاء أولوية مطلقة لإعادة تكوين الجيش والقوى الأمنية، بعيدا عن الانقسام السياسي أو فوقه؛ داخلت المساومات كل شيء، بما في ذلك التماس النواب الدعم من هذا الفريق المسلح أو ذاك، واعتراف المجلس الوطني أو قيادته والحكومة لبعض المسلحين بوضع يشبه وضع الجيش والقوى الأمنية الرسمية. وإذا كان السياسيون الليبيون قد اعتقدوا أنهم يستطيعون استخدام المسلحين وليس العكس؛ فإن الأميركيين والدول المجاورة العربية وغير العربية، والأوروبيين، صارت لهم مخابراتهم واتصالاتهم بالداخل الليبي، وبخاصة بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي واحتجاز وتشريد دبلوماسيين آخرين عربا وغربيين من جانب المسلحين. بل وفي الشهور الأخيرة؛ فإن الاغتيالات انصبت على ضباط الجيش والأمن والاستخبارات. وصار على كتائب الجيش، والأجهزة الأمنية، الاحتماء بالقبائل ووجهاء النواحي التي يوجدون فيها لكي يبقوا على قيد الحياة. وهذا فضلا عن تحكم مسلحين مختلفين بالموانئ النفطية أو أكثرها! ولذا فقد كان من المنتظر حتى لا تحدث فوضى مطلقة أو دويلات مثل الصومال، أن يتحرك طرف داخلي بمساعدة الجوار لكف الاضطراب. وقد لا ينجح العسكريون الذين بزعامة حفتر أو غيره في إعادة النظام إلى المدن المتنائية على الأقل. إنما المؤكد أن الفوضى لن تستمر، وأن القذافيين ليسوا عائدين، لا كسلطة ولا كقبيلة. فالجيوش الوطنية ما عادت لها الوظائف والمهمات التي كانت لها حتى عام 2010. وسبب ذلك هؤلاء الناس الذين ثاروا على الطغيان، والذين أراد الإرهابيون (العاملون لمصالح داخلية وخارجية) إرعابهم بالفوضى والقتل وشرذمة الآمال بالحياة الكريمة التي حرمتهم منها الأنظمة «الجمهورية» الوراثية!

إن ما حصل بليبيا بعد مقتل القذافي، حصل أفظع منه بكثير بعد مقتل صدام حسين، وفي الحياة الخالدة، والعهد الميمون لبشار الأسد. في العراق قتل الأميركيون والإرهابيون والإيرانيون وهجروا ملايين العراقيين. ولذا لن يبقى صنائعهم ومشاركوهم المستفيدون من مذابحهم في السلطة ولو بنيت على الارتكابات انتصارات انتخابية مدوية!

والأمر على هذا النحو بل أوضح في حالة بشار الأسد. ففي سوريا اليوم ربع مليون قتيل، وثمانية ملايين مهجر بالداخل والخارج، وأربعة ملايين (في مناطق النظام وخارجها) لا يستطيعون الحصول على قوت يومهم. ومع ذلك يصر الإيرانيون والروس على الاستمرار في دعم النظام القاتل، بل ويساعدونه في قتل الشعب السوري وإبادته. قال لنا نصر الله إنه ذاهب لسوريا لقتال «التكفيريين»، فأين قاتلهم؟ وقال الأسد مائة مرة إنه يقاتل الإرهابيين، فكيف تميز البراميل المتفجرة بين الإرهابي وغيره؟ ولماذا قتل عشرات الألوف في السجون، وآلافا أخرى بالكيماوي؟!

ما عرفت شعوب من الاضطهاد والظلم والقتل والإبادة والتهجير، بعد الحرب الثانية، ما عرفته الشعوب العربية. لقد كانت هناك حروب طاحنة منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي ذهب ضحيتها الملايين في شبه القارة الهندية وفيتنام، وإلى مذابح رواندا وبوروندي في التسعينات. بيد أن ما فعله صدام حسين وما فعله القذافي، وما فعله النميري والبشير، وما فعله حافظ الأسد وبشار الأسد، أي قتل النظام القائم لشعبه لأنه سئم الظلم والفساد والطغيان – فهذا أمر ما حدث مثله لأمة من الأمم حتى في حالة بول بوت وشعبه المعذب، وكوريا الشمالية والمعاناة المستمرة!

ما عاد من الممكن، أراد الإيرانيون والروس والأميركيون والإسرائيليون والداعشيون والقوميون العرب واليساريون العرب والدوليون، أم لم يريدوا – أن تستمر موجات القتل والإبادة والتهجير، من أجل استبقاء الأسد والمالكي وأشباههما، أو استعادة القذافي وصدام وأشباههما. أما الجيوش الوطنية في كل مكان في العالم العربي فهي في موضع الاختبار الهائل، فهل تكون جزءا من مرحلة جديدة في حياة العرب، أم تعجز عن ذلك؟!