يدرك أكراد العراق أن إعلان دولة مستقلة لهم سيعني صداماً دائماً مع المكونيْن العراقييْن الآخرين، الشيعة والسنّة، وتوتراً مع ثلاث دول اخرى يتوزع فيها الكرد، هي تركيا وايران وسورية. لكنهم يعرفون ايضاً ان المأزق الحالي لبغداد، يسمح لهم بانتزاع المزيد من الامتيازات في اطار الحكم الذاتي، وبالحصول على المزيد من الصلاحيات في ما يتعلق بالأمن وبادارة الاقتصاد، وخصوصاً النفط.
واذا كان الأكراد «اضطروا» الى تولي زمام الامور وحدهم في منطقة كركوك المتنازع عليها بحجة حمايتها من هجوم محتمل لتنظيم «داعش» بعد انسحاب وحدات الجيش العراقي، فإن ذلك لا يلغي ولن يلغي في المستقبل المطالبات العربية والتركمانية بالسيادة على هذه المنطقة او على الأقل بإعادة المشاركة التي كانت قائمة فيها.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الاميركي الى اربيل ولقاؤه رئيس الاقليم مسعود بارزاني وتشديده على وجوب ان يشارك الاكراد في «انقاذ» الدولة العراقية الفيديرالية باعتبارهم احد مكوناتها، لتؤكد ان الوقت لم يحن دولياً بعد للانفصال النهائي، على رغم «الواقع الجديد والعراق الجديد» اللذين تحدث عنهما الزعيم الكردي في معرض اشارته الى «فشل تجربة بناء عراق ديموقراطي» خلال السنوات العشر الماضية، وتلميحه الى امكان دعوته مواطنيه الى استفتاء لتقرير المصير «في عراق يتهاوى».
لكنّ لهذه الدعوة الاميركية الى الاكراد بإسعاف نظام الحكم العراقي الحالي ثمناً يجب ان يسدد، اذ يطلبون في المقابل ان تساهم واشنطن في حل النزاع القائم مع بغداد بشأن ادارة قطاع النفط في الاقليم، وهم بدأوا بالفعل في تصدير شحنات عبر تركيا التي لا يعني قبولها بذلك اعترافاً باستقلال الاقليم، بقدر ما يعني تفاهماً معه يقلص احتمالات التصعيد في المناطق الكردية التركية التي عاد التوتر اليها اخيراً، ويمنحها نفوذاً في التركيبة العراقية كيفما رست الأمور.
يدرك بارزاني عمق الحفرة التي أوقع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نفسه فيها، ومدى الضعف الذي ألم بنظامه بعد انهيار جيشه امام قوات «داعش» والعشائر السنّية والجيش العراقي السابق، ويشكك في امكان نجاح المحاولات الاميركية لانقاذه في مقابل تعديل سياساته، لأسباب متعددة بينها اصرار ايران حتى الآن على قدرة المكون الشيعي على انقاذ نفسه بنفسه كي لا يضطر الى تقديم «تنازلات» الى السنّة والاكراد.
ولهذا وضع رئيس الاقليم ثمناً مرتفعاً لأي مشاركة كردية في اعادة توحيد العراق المقسم حالياً بحكم الأمر الواقع، وقال لكيري انه اذا كان المجتمع الدولي وقف حتى الآن صامتاً أمام اقامة «امارة اسلامية متطرفة» في مناطق عراقية وسورية، فلماذا سيعارض اقامة دولة كردية مستقلة في شمال العراق وحده، اذا كانت معتدلة ومتفاهمة مع الجوار. واستند في حجته الى انه سبق ونصح اكراد سورية بعدم اعلان اي نوع من الاستقلال او الحكم الذاتي لأن ذلك سيقوض جهود الاكراد العراقيين في تثبيت اقدام كيانهم الساعي الى الاستقلال ويدخلهم في مواجهة اقليمية.
قد لا تستطيع بغداد حالياً رفض مطالب الاكراد حتى لو اعتبرتها «مبالغاً فيها» لأنها تحشد قواها لمواجهة خطر اجتياحها، وقد تكون «داعش» ومن معها فضلوا مهادنة الاكراد الآن للتفرغ لمعركتهم مع المالكي. لكن أياً تكن نتائج الحرب القادمة بينهما، فإن المنتصر فيها لن يترك الأكراد وشأنهم بمجرد ان يستعيد قواه، اذا ما اعلنوا دولتهم، او ربما حتى لو لم يعلنوها.