Site icon IMLebanon

لا مكان للإبن الضال في جنة أوروبا

مرة أخرى خيّبت سورية آمال الغرب، ليس لانتخاب بعض أبنائها مجرم حرب رئيساً لولاية ثالثة، ولا لفشل معارضتها في صوغ خطاب متماسك يقنع المجتمع الدولي بضرورة التصرف سريعاً وإنما لأنها لم تكن «مقبرة الجهاديين» كما كان منتظراً منها. بل على العكس، يبدو أنها تحولت أخيراً الى منبت خصب لمتطرفين أجانب بلغ عددهم اكثر من ألفين موزعين على بلدان مثل بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا. وكانت نظرية تحويل سورية «مقبرة للجهاديين» سادت لفترة غير وجيزة وإن بشكل غير معلن ورسمي، وافترضت ان نظام بشار الأسد سيتكفل بالقضاء على من تستقطبهم ساحات الجهاد من مقاتلين في تنظيم «القاعدة» ومتفرعاته، على أن ينظر الغرب لاحقاً في أمر النظام نفسه. وانعكست تلك النظرية في أداء وسلوك سياسيين كشفا بوضوح عن اقتناع الغرب بأن الأسد وإن كان دموياً وظالماً ومستبداً، إلا أنه يقارع مجموعات ارهابية، وهذا بحد ذاته كفيل بمنحه فترة سماح اضافية، سيما وأن لا بدائل جدية مطروحة من جانب المعارضة.

وفي وقت بدا ان سورية باتت مدعاة ضجر وتململ لدى الرأي العام الغربي وفي الصحافة وأروقة صنّاع القرار، عادت فجأة الى الأضواء لا لشيء يخص السوريين أنفسهم، وإنما لخطر داهم راح يطرق أبواب اوروبا نفسها ويعيد التذكير باعتداءات مترو الأنفاق في لندن ومدريد وغيرها. انهم «العائدون من سورية» الذين غادروا جنة الغرب بحثاً عن جنة من نوع آخر ويبدو أنهم يعودون اليوم حاملين غضباً وتطرفاً ومهارات قتالية تقلق مجموعة السبع التي قررت أخيراً اتخاذ اجراءات صارمة بحقهم.

ومع محمد أبو صالحة، وهو أول أميركي ينفذ عملية انتحارية في سورية، ومهدي نموش الذي هاجم الكنيس اليهودي في بروكسيل الاسبوع الماضي، بات لذلك الخوف اسم ووجه وملف قضائي يعيد رفع انذارات الخطر الارهابي في اوروبا وجزئياً أميركا. وما يثير الرعب أكثر غياب اي سوابق جرمية لغالبية المتوجهين للقتال في سورية، ما يصعّب اقتفاء أثرهم وإلقاء القبض عليهم، ويعزز في المقابل الاسلوب الامني الاميركي باتخاذ «إجراء استباقي» حيالهم وتوقيف المشتبهين الى حين تثبت براءتهم.

ويبدو أن سؤالاً ملحّاً لم يجد له اجابات منذ هجمات 11 أيلول عاد يطرح نفسه بقوة، وهو «لماذا يكرهوننا؟». انها عودة الى خانة البداية، حيث البحث من جديد في قضايا المهاجرين وإدماجهم وكيفية التوفيق بين الهوية الدينية والحريات الشخصية والعامة وغير ذلك من القضايا التي شغلت العالم في العقد الماضي، ويبدو انها ذهبت طي النسيان. فكأن الغرب وأوروبا تحديداً تعيد النظر اليوم في ما أنجزته أو لم تنجزه في السنوات الماضية تجاه هذه المعضلة. فهل يعقل أن تعيد تلك المجتمعات انتاج «خلية هامبورغ» بصيغة جديدة؟ لم لا ولا يزال المهاجرون «المعتدلون» يفضلون ارسال بناتهم الى بلدانهم الاصلية بعد البلوغ «لأسباب ثقافية واجتماعية»، والناشطون السياسيون الأقل اعتدالاً يكفّرون المجتمعات الغربية ويسعون الى اعادتها الى الصراط المستقيم؟

وصحيح ان في ذلك تبسيطاً لأزمة المهاجرين التي تختلف بدورها بين بلد وآخر، ولكن الهوة الاساسية تكمن في بحث الغرب عن اجابات لقضية داخلية خارج حدوده. فتنشئة أجيال على مبادئ الديموقراطية والعدالة وحقوق الانسان، فيما الممارسة السياسية تفشل في الانتصار لتلك المبادئ خصوصاً وسط جاليات تتوزع همومها بين أكثر من بلد وجيل وثقافة ودين، يزيد احتقان الشباب ويدفع بهم الى خيارات قصوى. فيصبح المهاجر الشاب ممزقاً بين بيئة زرعت فيه تلك القيم ويتوقع من حكوماتها (التي قد يكون شارك في انتخابها) الدفاع عنها، وأرض أجداده التي يحمل سحنتها، وترزح تحت ظلم مستبد محلي، وتقاعس دولي يشعر أنه جزء منه. إنها في العمق الثقافة الغربية التي تمكّن الفرد وتدفعه الى التصرف بموجب قناعاته، مقابل ثقافة الجماعة التي يذوب فيها الفرد وتتكفل الجماعة بتقرير مصيره.

لذا، فإن الحالة الاولى تنتج تلك «الذئاب الضالة» أو الوحيدة كما اصطلح على تسميتها، فتخرج من قطيعها وتذهب منفردة الى البحث عن مصيرها. ومن هؤلاء مثلاً عمر الفاروق وأنور العولقي وغيرهم، وينضم اليهم المعتنقون الجدد للديانة الاسلامية، الذين يذهبون تلقائياً خطوة أبعد في الاستبسال والتضحية في سبيل القيم التي تبنوها حديثاً.

أما الحالة الثانية، فهي التي تنتج تنظيمات وأحزاباً مغلقة، تقاتل بدورها اليوم في سورية لكن تحت راية الأسد، ولا نعرف لأفرادها اسماً أو صورة أو سيرة ذاتية تفيدنا في البحث والتقصي والإجابة عن سؤال يؤرقنا نحن أيضاً، «لماذا يكرهوننا؟».

فإذا كان المقاتلون الاجانب من طرف المعارضة يقاربون الـ 8 آلاف، بينهم ألفا «غربي»، فإن هؤلاء يفوق عددهم الـ18 ألف مقاتل بين «حرس ثوري»، و «كتائب ابو الفضل العباس» و «حزب الله» وغيرهم من الحوثيين والهزارة الافغان.

وعليه، فالخوف الاوروبي من أبنائه الضالين العائدين من سورية، مبرر لكنه مبالغ وغير حصري، سيما وأنه كان يمكن تفاديه جزئياً باعتماد مقاربات مختلفة مع القضية السورية. فالقول إن هؤلاء الشباب يعودون بمهارات قتالية عالية لا اساس له من الصحة، ذاك أن صناعة القنابل اليدوية متوافرة على الانترنت وكان حتى أمس قريب موقع الكتروني شائع يعلّم الراغبين صناعة المتفجرات «بأسهل الطرق في مطبخ الوالدة». أما الخوف من عودتهم بأفكار متطرفة ومتشددة، فيقتضي أنهم ذهبوا الى سورية بعقلية «علمانية منفتحة» وعادوا منها بتلك الأفكار البائدة، فيما الواقع يقول إنهم لولا تطرفهم السابق على «هجرتهم الجهادية» لما بحثوا عن ساحات قتال اصلاً. ولعل في هجوم بروكسيل الاخير الذي اعتبرته السلطات البلجيكية نفسها «عملاً عنصرياً وفردياً»، خير مثال. فالمهاجم ابن بيئته، وكان دخل السجن بجنحة سرقة وخرج متطرفاً راغباً في الجهاد… عندنا!