لا بيئة حاضنة للتطرّف والإرهاب في لبنان، هذا أمر مفروغ منه، ولكن؛ نعم نمَتْ في لبنان مجموعاتٌ تنسبُ نفسها للإسلام، وتدّعي أنّها من علمائه، وكلمة «علماء» الإسلام باتت كلمةً فضفاضة تُطلق على كلّ صاحب وجهٍ قبيحٍ متجهّم أطلق لحيةً بربريّة، وعدم وجود البيئة الحاضنة لا يعني أنّنا بمنأى عن تغلغل التطرّف والمتطرّفين بيننا، وهذا سؤال يقضّ مضجع اللبنانيّين المسلمين من أهل الاعتدال، قبل اللبنانيين المسيحيين الذين ينظرون بعينِ الخوف والريْبة والشك والقلق على مصيرهم في لبنان وفي المنطقة.
لا يستطيع من هم في مواقع المسؤوليّة السياسيّة أن يُنكروا أنّهم غضّوا الطرف عن سابق تصوّر وتصميم عن هذه النماذج المتطرفة، بسبب «الفورة الشيعيّة» التي بدأت منذ أواخر الستينات، وبلغت ذروتها مع «التطرف والإرهاب» الذي نشره حزب الله في لبنان، وحسابات السياسة «خاطئة»، وقد دفع لبنان ثمنها في «عبرا» مع نموّ ظاهرة «الإرهابي» أحمد الأسير في صيدا، والذي وجدَ أذناً صاغية عند الساخطين على الحال التي آلت إليها أحوال السُنّة بفعل تطاول حزب الله المستمر عليهم وتحكّمه بمصير لبنان، وأحمد الأسير «جاهل» لا يفقه من علوم الإسلام شيئاً ولم نسمع منه إلا كلاماً في الشحن المذهبي، وسيظلّ السؤال مدويّاً: «من سمح لأحمد الأسير بوضع يده على مسجد تصدّى فيه للخطبة وللتدريس» من دون حسيب ولا رقيب، وكذلك كلّ المشابهين لأحمد الأسير المنتشرين على منابر مساجد لبنان في حالة فلتانٍ تشبه تلك التي رعتها المخابرات السورية بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 فبرز في ذاك العام الشيخ عبد الحفيظ قاسم وكانت مهمّته التحريض على مسيحيي لبنان وإبقاء نيران الحرب الأهلية موقدة، وكان رفيقه في إذكاء نيران هذه الفتنة يومها الشيخ محمد علي الجوزو، ولكن لا ذاكرة للناس!!
نعيشُ اليوم حالة مماثلة في لبنان، لكلّ واحدٍ من أدعياء العلم، ومنتحلي صفة «العلماء» ـ وهي كلمة للأسف كرّسها المفتي السابق محمد رشيد قباني ربما رغبةً في تعظيم قدره ، فكان يجمع «خدم المساجد وخطبائها» ويطلق عليهم صفة «علماء الإسلام»، حتى صدّق هؤلاء مقولته، وقد استفحلت هذه الظاهرة، منذ عجزت دار الفتوى عن استرداد مسجد برج أبي حيدر الذي احتلّه أحباش جمعيّة المشاريع منذ أواخر سبعينات القرن الماضي ونجحوا في استمرار وضع اليد عليه بدعمٍ من المخابرات السوريّة، وعليه تكرّست فكرة وضع كلّ مجموعة دينيّة يدها على مسجد، من دون أي ضبط من دار الفتوى ولا مراقبة لخطبة الجمعة في المساجد..
قرب منزلي مسجد يتولّى فيه الخطابة يوم الجمعة النائب عماد الحوت، وإذا ما خطب إمام المسجد فستسمع عجباً يوم الجمعة، فمن على منبرِ مسجد في لبنان لا يتردد الشيخ في الدّعاء بالهلاك على فرعون مصر، والمقصود به الرئيس عبد الفتّاح السيسي، والتفجّع على حكم الإخوان ورئيسهم محمّد مرسي ـ الذي يكذب على المنبر ويسمّيه حكم الإسلام ـ الذي لفظه الشعب المصري، فأي شأن لنا بأمور مصر وشعبها، واي إساءة يرتكبها هؤلاء «زوراً وتضليلاً» لبسطاء المصلّين في هذا المسجد، وما هذه إلا عيّنة ممّا يحدث في مساجد لبنان، وهذه مهمّة عُظمى وجليلة تنتظر سماحة المفتي عبد اللطيف دريان، في إصلاح حال المساجد وخطبائها ومنع وضع الجمعيات يدها عليها لحساب سياستها الشخصيّة!!
تعيش الطائفة السُنيّة في لبنان أزمة كبرى، وإنكارها سيزيد من تفاقمها، وهذه الأزمة أنتجت متشددين مؤيدين لفكر تنظيم القاعدة، ولظواهر مخابراتيّة من أمثال «شاكر العبسي» و»أحمد الأسير» وكثير من وجوه «هيئة العلماء» ودورها المشبوه عند كلّ أزمة يفتعلها تيار إرهابي سُنّي مدسوس على الطائفة وعلى لبنان، ونتمنّى على مفتي الجمهورية سماحة القاضي عبد اللطيف دريان أن يأخذ على عاتقه ضبط وغربلة هذه الهيئات خصوصاً وأن للمخابرات السوريّة في لبنان 0سوابق في اختراع هذه الهيئات لتكن جزءاً من مؤامراتها على الطائفة السُنيّة منذ سني احتلالها للبنان ونستطيع أن ندلّ بالإصبع وبالإسم على أسماء هؤلاء ومهامهم المسكوت عنها!!
هذا ليس إسلام الإمام الأوزاعي رحمه الله، ولا لبنان الإمام الأوزاعي الذي مرّ على رحيله ألف وثلاثمائة عام وما زال حاضراً بفكره وعلمه وفقهه، هذا ليس إسلامنا، وهؤلاء ليسوا علماءً يحقّ لهم التشدّق بأمور السياسة متلطّين خلف عباءة أو عمامة أو لحية، حان الوقت لإصلاح المؤسسة الدينيّة السُنيّة وإعادة ترتيبها من الداخل وكفّ يدِ وإبعاد كلّ متطرّف عنها، حتى لا نبقى عرضة في لبنان لموجاتِ «التتار» من «الهمج» المتطرفين وأدعياء الإسلام وعلومه بغير حقّ، فهؤلاء تُجّار الهيكل أو تُجّار الدّين، فبعد عرسال وأحزانها المستمرّة بخطف الجنود والأمنيين اللبنانيين بفعل «مؤامرة» رخيصة، لم يعد مقبولاً ترك الحبل على الغرب لكلّ متطرفٍ نصّب نفسه إماماً في مسجد، أو أميراً على مجموعة، أو «داعية» يفتري على الله وعلى المسلمين كذباً.