إنّ تجربتنا الطويلة مع الحرائق والحروب تحتّم علينا أن نتروّى في قراءة التّطورات الكبيرة التي تحيط بنا من كلّ اتّجاه.. ولا بدّ من الاعتراف بأننا جميعاً فوجئنا بسقوط الموصل وظهور داعش في سوريا والعراق وما نتج عنها من تغيّرات سياسية في كلّ دول المنطقة بدون استثناء وفي مقدمتها العراق.. بالاضافة إلى الحديث عن تحالفات اقليمية وعربية ودولية لمحاربة الإرهاب.. مع تعاظم المواقف والاستراتيجيات والتحالفات.. كما أصبحنا مرة أخرى أمام قواعد اشتباك جديدة واصطفافات جديدة نحتاج الى وقت لتفكيك رموزها ومفرداتها واتفاقاتها وخلافاتها وأهدافها.. وباختصار.. علينا أن نتروّى في القراءة والاستنتاج.. كما حصل معنا عشية 11 سبتمبر 2001.. حين لم نكن مهيّئين ولم نكن مدركين في تلك اللحظات بأنّ تلك الطائرات التي اصطدمت بأبراج نيويورك والبنتاغون وكادت ان تسقط فوق البيت الابيض بأنها ستغيّر وجه العالم.. فدخلنا دولاً ومجتمعات في تداعيات الحرب على الارهاب.. وتراجعت كل قضايانا وموضوعاتنا واهتماماتنا.. وتغيّرت مفرداتنا وتوجّهاتنا..
أحيت الولايات المتحدة هذا العام ذكرى 11 سبتمبر 2001 في حديقة البيت الأبيض.. وتحدّث الرئيس أوباما عن ضحايا الولايات المتحدة بحربها على الإرهاب في العراق وأفغانستان.. مع تأكيده بأنّ لا علاقة لداعش بالدين الإسلامي.. كما أكّد أنّ محاربة هذه الظاهرة لا يمكن أن تكون إلاّ مع الدول السّنية في المنطقة.. وذلك عكس سلَفِه جورج بوش والمحافظين الجدد الذين عاقبوا كلّ السُّنة والعرب في العالم بعد 11 سبتمبر 2001.. ومن هنا تأتي أهمية إجتماع جدة العربي التركي الأميركي وهو بمثابة إعتراف بالخطأ الذي إرتكبته الولايات المتحدة في حروبها السابقة على الإرهاب والإنتقام من الدول العربية والمجتمعات السنية على حدّ سواء..
أنّ لحضور وزير خارجية العراق الدكتور إبراهيم الجعفري أهمية إستثنائية.. وهو رئيس حكومة سابق.. وأحد كبار مهندسي التسوية السياسية العراقية الأخيرة والتي جاءت بحكومة العبادي.. لأنّ في ذلك إشارة لتطور العلاقات السعودية العراقية الإيرانية الأميركية الفرنسية.. حول العراق على الأقل.. وعودة الوجه العربي للعراق بعد أن تمثّل لسنوات بوزير الخارجية العراقي الكردي هوشيار زيباري.. وحضور الجعفري لا يقل أهمية عن حضور وزير الخارجية اللبناني لهذا الإجتماع أيضاً بسبب ذات التقاطعات بين السعودية وإيران وأميركا وفرنسا في لبنان ايضاً.. من هنا تأتي أهمية زيارة الرئيس الفرنسي هولاند إلى العراق بالأمس.. وإستضافته دول التحالف يوم الإثنين في باريس..
يدور الحديث عن الغموض حول هذا التحالف.. إلاّ أنّ الغموض هو غاية في الوضوح وهو رغبة الجميع بالإنخراط في هذا الصراع.. والجميع يسعى للإنضواء تحت لوائه.. وبمعنى أوضح الجميع يريد أن يحافظ على مكتسباته واستثماراته في المشرق العربي وحماية نفوذه من الانهيار.. لأنّ كلفة الصراع مع هذا التحالف أكبر بكثير من كلفة الصراعات الماضية.. مادياً وبشرياً وسياسياً..
أصاب الإرباك المؤسسات السياسية الدينية ورموزها لارتباط ما هو قادم بالصراع مع داعش.. وهذا يعني أنّ كلّ أشكال التّعصب مهددة لأنّها تؤدّي إلى النتيجة عينها التي وصلت إليها الأمور في سوريا والعراق.. ولأنّ التعصب الديني هو الذي منع الإنصهار بالهوية الوطنية أو الهوية العربية أو الهوية الانسانية.. مما جعل الكبار والصغار يستسهلون لعبة التّعصب والعنف السياسي الديني وبأوجه مختلفة.. من العنف العسكري إلى العنف اللفظي إلى العنف التأويلي والفكري والإلغائي والانعزالي.. أي التكفيرية السياسية الدينية بكلّ أوجهها.. ولقد شهد الشرق الأوسط مع نهايات الحرب الباردة صعوداً متواتراً للحركات السياسية الدينية.. دولاً وجماعات..
قرأ السياسيون اللبنانيّون الرسائل الواضحة والقادمة من كلّ مكان.. من ويلز الى القاهرة والعراق وواشنطن وجدة وباريس.. وأنّه ما من أحد مستعدّ للتّعامل مع الفاشلين والعاطلين عن العمل.. دولاً وحكومات.. ولهذا السبب كان لا بدّ من تأليف الحكومة العراقية قبل أن يتحدث أوباما الى الكونغرس الأميركي عشيّة 11 أيلول وقبل زيارة جون كيري الى العراق.. فما كان من عمالقة ووحوش الشاشة العراقية في السنوات الأخيرة والأشهر الماضية إلا أن ذهبوا جميعاً كالشطّار إلى البرلمان ليمنحوا الثقة لحكومة العبّادي.. تاركين تسمية كلّ من وزيرَيْ الدفاع والداخلية الى ما بعد زيارة كيري..
أدرك اللبنانيون بأنّ دولتهم لا يمكن أن تُغطّى أو تُدعم أو تُحفظ ما لم تكن تعمل.. ولهذا لا بدّ من إعادة عجلة الإنتاج السياسي المعطلة منذ 25 أيار حتى الآن.. فكانت الخطوة الأولى مبادرة 14 آذار الرئاسية.. وبصرف النظر عن بلاغتها لكنها حركة بالإتجاه الإلزامي.. ثم جاء إجتماع تفاهم مار مخايل بين السيد نصر الله والجنرال عون والتأكيد على أولوية الدولة وعملانيتها.. وأنّ الدولة لا تدار بالتعطيل.. وذلك بالتّزامن مع خطاب سمير جعجع والإلتزامات والإستعدادات.. وانكفاء النائب وليد جنبلاط عن مبادراته.. ثم جاءت مقابلة الرئيس أمين الجميّل التلفزيونيّة.. وتمّ تشكيل الحكومة للجنة الاشراف على الانتخابات.. وذلك مع بدء الحديث في لبنان عن تداعيات مالية لدى شخصيات ومجموعات عديدة عملت خارج الخطوط الحمراء في أموال الإرهاب.. أشكال وألوان.. ويعتقد الكثيرون بأنّها ستتصاعد كثيراً في الأيام القادمة مع عملية التجفيف الحقيقي لمصادر تمويل الإرهاب.. وأنّ القائمة ستطول وهي تشبه إلى حدّ بعيد بنك المدينة وكوبّونات صدام النفطية.. مما استدعى جميع العاملين في القطاع المالي والإقتصادي إلى الدّعوة إلى مؤتمر صحافي للهيئات الإقتصادية تحت شعار «إنتخبوا رئيساً كي يبقى لنا جمهورية»..
إنّ كلّ ما تحدّثنا عنه حتى الآن قد شاهدناه جميعاً.. من أحداث وتحرّكات علنية.. واعتمدنا ما صدر عنها.. ولم نتطرق إلى الغمز واللمز والإدعاء بمعرفة أسرار الدول والمجتمعات والمخابرات والمعلومات وإلى ما هنالك من شطارات لبنانية ذهبت أدراج الرياح مع موصل العراق الذي جاء من خارج السياق والتّوقعات.. فإنّنا نحرص على التخاطب المباشر فيما بيننا.. أي أنّ كلّ ما ذكرناه نعرفه جميعاً وقد نختلف على الربط بين أحداثه أو نختلف في الإستنتاجات وهذا طبيعي.. لذلك لا أتوقّع أن تستطيع الطبقة السياسية مجتمعة تجاوز جلسة 23 أيلول القادم لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية.. وهو الموعد الطبيعي تاريخياً لتولّي رئيس الجمهورية مهامه الدستورية.. وهنا أريد أن أتجرّأ على الاعتقاد بأنّ وحوش الشاشة اللبنانية وعمالقة السياسة سيذهبون كالشطّار أيضاً إلى جلسة الانتخاب في 23 أيلول.. ولن يجرؤ أي فريق أن يكرّر ما حصل في الجلسات الماضية..
وبصرف النظر عن نتائج جلسة 23 أيلول والهمهمات والتسريبات والأسماء والاجتهادات إلاّ أنّها ستُنْهي الإصطفاف السياسي اللبناني وموضوعاته وأدواته.. لأنّ لبنان بعد 23 أيلول.. إمّا دولة وطنيّة أو دولة داعشيّة..