Site icon IMLebanon

لبنان: بين الفراغ والأمر الواقع

 

تثير الشفقة محاولات الدستوريين في لبنان إقناع نواب الأمة بالواجب الذي يفرض عليهم تأمين النصاب لجلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية. يخيّل لمن يتابع نشاط هؤلاء على الشاشات وفي المحافل السياسية أنهم قادمون من كوكب آخر، أو كأنهم لا يعيشون على ارض الواقع الجديد في لبنان.

انتهى الزمن الذي كان فيه النواب في لبنان يحتكمون إلى الدستور والقوانين في ممارسة واجباتهم. وانتهى الزمن الذي كان يُنتخب فيه رئيس للجمهورية بأكثرية صوت واحد ويقبل الآخرون برئاسته. باختصار انتهى الزمن الذي كان فيه لبنان يحتكم إلى منطق الأكثرية والأقلية وخضوع الثانية لإرادة الأولى، كما هو الحال في سائر الأصقاع التي تسمي نفسها ديموقراطيات.

في لبنان اليوم دولة أمر واقع هي التي تتخذ القرارات التي تعجبها عندما تتيح لها آليات الحكم ذلك. أمأ إذا كانت الآليات مخالفة للرغبات فليس هناك أبسط من التعطيل كوسيلة لشلّ الدولة والمؤسسات… وليذهب الدستوريون والقانونيون ويشربوا من البحر إذا لم يعجبهم ذلك.

ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها دولة الأمر الواقع سلاح التعطيل لتعطيل الجمهورية. مجلس النواب أُقفلت أبوابه شهوراً لمنع قيام المحكمة الدولية. عمل الحكومات ومساعي تشكيلها جرى شلّها أكثر من مرة تحت زعم الافتقار إلى الميثاقية. فُرض على الوزراء المحسوبين على طائفة دولة الأمر الواقع أن يذهبوا إلى بيوتهم وإلا… ولم يجرؤ أحد من الطائفة نفسها على أن يحل مكانهم. أما 7 أيار (مايو) فحديث آخر انتهى الأمر بعده إلى تسليم مفاتيح القرار إلى دولة قطر (عندما كان شكرها هو الشعار المرفوع فوق رايات بنت جبيل)، فأشرفت على تعيين «رئيس توافقي» تحوّل بعد ذلك إلى عبء عليهم، عندما رفع يافطة الدولة فوق سواها، كما يفترض منصبه وقسمه.

تقول لهم إن التعطيل هو ضد أبسط مبادئ العمل الديموقراطي. في الديموقراطيات يذهب المتنافسون إلى الصندوق، يفوز من يفوز ويفشل من يفشل. لا تقوم الدنيا ولا تقعد، ولا يعترض أحد بحجة ضرورة التوافق، التي لا تؤدي، كما الحال في لبنان، سوى إلى استقواء المسلح على الأعزل، والقوي على الضعيف، فضلاً عن انهيار كل حجة دستورية أو قانونية في وجه حجج الغوغائيين وأصحاب الأصوات العالية.

في حالات الخلاف حول عمل المؤسسات وطريقة تسيير أمور البلاد، يجري الاحتكام عادة إلى النص الدستوري الواضح، والذي تم وضعه أساساً لتسوية هذه الخلافات ولضبط سير الدولة. يردّون: الديموقراطية شيء وبلادنا شيء آخر، وهنا لا بد من التفاهم على التسويات ليتمكن الرئيس من الحكم.

ماذا يعني التفاهم في نظرهم؟ يعني أن تقبل بما يختارون لك. هم الأدرى بمصلحتك وبمصلحة بلدك. شهادات حسن السلوك تصدر من أحيائهم، ومن لم يحصل عليها لا مكان له على لائحة الترشيح، وربما يُشطب اسمه في يوم قريب من لائحة المواطَنة.

حتى وسائل إعلامهم التي تزعم اليوم أنها تخوض حرب حريات دفاعاً عن الإعلام، ويتقاطر زملاء وإعلاميون للدفاع عن حقها هذا (بافتراض الاعتداء عليه) حتى هذه الوسائل صارت عناوينها الكبرى تدعو إلى: مرشحهم أو… لا أحد.

سقط لبنان بالضربة القاضية عندما تم الاستقواء الفاضح على عمل مؤسساته، وفي المقدمة منها المؤسسة الأم، أي المجلس النيابي. ليس الامر وليد اليوم ولا الأمس. إنه نتيجة تراكم سنوات من الخنوع لدولة الأمر الواقع والتساهل معها على حساب تسيير أمور الجمهورية. الجميع مسؤول. الذين ساوموا وسايروا، ومثلهم الذين خنعوا ولم يحركوا ساكناً. أما الذين «تفاهموا» فهم في طليعة المسؤولين عن وقوع البلد والموقع الأول فيه في قبضة من استقووا عليه. لم يكن هناك سبب لتآمر هؤلاء «المتفاهمين» على المصلحة الوطنية سوى الأنانية الحزبية والشخصية التي تعمي البصائر، والتي انتهت بهم إلى التلطّي خلف زعم الحرص على «التوافق» في سبيل الوصول إلى السلطة.

ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة. مجلس معطل ودولة مشلولة. قرار التعطيل معروف مصدره وعنوانه. تسيرون في الركب الذي يختاره لكم وعنكم فيكتمل النصاب ويكون لكم رئيس، إذا أردتم أن تسموه كذلك. أما إذا كنتم ستستمرون في حساب الأصوات والنسب والأكثريات والأقليات، فإن هذه اللعبة قد انتهى زمنها تحت قبة الممانعة، وبالتالي فإنكم ستنتظرون طويلاً لقيام رئيسكم العتيد. ودولة الأمر الواقع سوف لن تحسدكم على هذا المصير الذي اخترتم لأنفسكم. ذلك أن رئيسها موجود وحاكم، ولا يحتاج إلى ثقتكم ولا إلى أصواتكم. إنه الرئيس الفعلي للجمهورية التي تختارون رئيسها، سواء نجحتم في الاختيار أم لم تنجحوا.