عندما يحاول المرء دراسة تركيبة العقل العربي والعقل اللبناني في جملته لجهة تعاطيه مع المراحل السياسية التي مر بها الوطن الصغير منذ نشأته (1930) والذي كان أقل مساحة مما هو عليه يوم ضم الاقضية الاربعة والمدن الساحلية الرئيسية بما فيها بيروت التي أصبحت عاصمة له، يصل الى استنتاجات لا تبعث على الرضا والتفاؤل. فالروح العلمية ومعاييرها الموضوعية المستندة إلى العقل العلمي ومنهجه ما زلنا حتى اللحظة التاريخية الراهنة وبالرغم من الاحداث الطاغية بعيدين عنها. ذلك اننا بسبب فقداننا او عدم تخلينا بالمنطق العلمي في قراءة الظاهرات وتحليلها ومقارنتها بعضها ببعضها الآخر. فترانا امام ظاهرة تاريخية معينة نخرج باستنتاجات انفعالية عاطفية بعيدة كل البعد عن الواقع المادي المعاش. فلم نكتب ولو مرة واحدة ولم نعمم قراءة تاريخية جامعة للوطن اللبناني نجد ترجمتها في كتاب تاريخ مشترك واحد تتفق عليه ومن خلاله الأجيال، فثمة تواريخ وكتب تاريخ متعددة متباعدة حتى التناقض في تحديد من نحن وما تاريخنا الذي عبرناه وبأي اتجاه ترانا ذاهبين.
ان العصبيات الدينية والمذهبية والطائفية بشكل عام قد ظلت تعطل على الدوام هذه القراءة، وكانت تنضاف اليها باستمرار متلازمات الانقسام العشائري والعائلي والجهوي لتعمق الهوة بين اللبنانيين، مما ولد على الدوام ازمات دورية تضرب الوحدة الاجتماعية وتحدث فيها شروخات عميقة عصية على الحل. وقد لعب النظام الرأسمالي الوسيط القائم بامتياز على قطاع الخدمات دوراً لا يمكن تجاهله في اعادة انتاج الازمات السياسية وتأكيد عجزه الفاضح عن حملها وتوحيد اللبنانيين في جملة واحدة ومشروع وطني واحد.
فمن اجل تسيير وانتظام عمل الادارة والقطاعات الوسيطة اثناء الانتداب كان من الطبيعي بمكان استخدام المسيحيين والموارنة بشكل خاص كموظفين مؤهلين علمياً أكثر من الفئات الاخرى نظراً لانتشار المدارس والثقافة والمعرفة بينهم سواء عن طريق المدارس والمعاهد والجامعات التابعة للارساليات أو الوطنية المحلية البلدية التي لعبت فيها الرهبانيات دوراً رائداً في اعداد الكادر الضروري لتسيير وانتظام هذه القطاعات. وهذا ما راكم في تلك المرحلة التربة المناسبة والبيئة الحاضنة للمارونية السياسية التي وجدت نفسها مع التطورات الهائلة التي خلخلت وصدعت المنطقة العربية بعد سقوط فلسطين (1948) وصعود طبقة العسكريين العرب الصغار إلى السلطة رافعين الشعارات القومية كحل لأزماتها المستعصية. فكانت عندنا ازمة 1958 التي انتهت بتسوية توافق لبنان مع المد القومي العربي الناصري وتسوية اخرى داخلية متوافقة هي الاخرى معها.
إلا ان أحداثاً اقليمية طاغية (بروز المقاومة الفلسطينية، هزيمة 5 حزيران 1967، صعود اسرائيل كقوة اقليمية ذات مخالب نووية..) راح يهدد التوازن اللبناني في صيغته الفريدة هذه تلك المعروفة بـ5 الى 4 في البرلمان و6 مقابل 6 في الوظائف العامة. ولم تجد لا الصناعة الثقيلة ولا التحويلية المتطورة والزراعة الممكننة طريقها لتمثل شطراً وازناً في الانتاج الوطني الصافي PNB، في الوقت الذي ظل قطاع الخدمات (القطاع المصرفي، الترانزيت، اعادة التصدير الى العمق العربي.. أي الاقتصاد الحر) هو السائد عندنا. وعندما أحست المارونية السياسية ان مصالحها مهددة عندما بدأ لبنان يتحول الى ساحة مواجهة بين السلاح الفلسطيني من جهة والردع الاسرائيلي من جهة اخرى، بما يعني القضاء الفعلي على الاستقرار الداخلي والسلم الاهلي الضروريين لانتظام مصالح الرأسمال الوسيط واندلعت الحرب الاهلية (1975 1990).
إلا ان حدثاً طاغياً آخر كان قد هز المنطقة العربية عام 1979 ألا وهو الثورة الاسلامية في ايران وصعود الشيعية السياسية وطروحاتها الدينية المعروفة. وما لبثت تداعياتها ان وصلت الى لبنان، بعد سقوط المنظومة الاشتراكية (1989)، لتلغي عملياً كل المنظمات الوطنية المقاومة حتى بما فيها الفصائل الفلسطينية التي خبا بريقها وانحصرت داخل المخيمات الفلسطينية نفسها.
الا ان حروب الخليج المتواصلة وهزائم نظام صدام حسين، قد ترافق عندنا باكتساح تنظيم مسلح ذي هوية مذهبية الساحة الشيعية بأسرها ألا وهو حزب الله، الذي ما لبث ان تحول الى دولة فعلية داخل الدولة اللبنانية (جيش وازن يملك اسلحة متطورة، تنظيم محكم الانغلاق، له استخباراته، ووسائل اتصالاته الخاصة، له تمويل ضخم، يملك مؤسسات اقتصادية الخ…) وبديهي ان النظام الأسدي (الأسد الأب) كان يؤثر توطيد علاقاته مع نظام طهران الذي راح يضخ كل عائدات نفطه الوفير في التدخل في شؤون المنطقة العربية بما فيها فلسطين حتى بعد اتفاق اوسلو (1993).
المثير في تلك المرحلة ان لبنان عرف في مناطقه الجنوبية والبقاعية الجنوبية مواجهات دامية مع إسرائيل من جهة، وورشة اعمار ضخمة مع صعود الرئيس الشهيد رفيق الحريري كرئيس لحكومة لبنان. وبالرغم من انسحاب اسرائيل العسكري من الجنوب اللبناني (2000) فإن هذا السلاح الذي لم يعد له من مبرر فإنه تحول الى واقع خاصة بعد حرب (2006) التي كان بالامكان تجنبها الا انها شكلت منعطفاً تاريخياً للهجوم باتجاه الداخل اللبناني وفرض نوعية الحكومات اللبنانية التي يريد. وقد اثار عام 2008 في 7 أيار ازمة خطيرة افضت الى اتفاق الدوحة وأدت المفاوضات الى المجيء بالرئيس سليمان.
ولم تفلح محاولات الرئيس سليمان في إقناع حزب الله بالانخراط الداخلي لتوحيد السلاح بإمرة السلطة السياسية ولا باندماج الجناح العسكري لحزب الله تحت قيادة الجيش الوطني. فالحزب ما زال يتمسك بسلاحه رافضاً أي نقاش أو حوار يفضي الى أي اندماج في صفوف الجيش الوطني أو حتى الدخول في أية مشروعات لاستراتيجية دفاعية تقنعه بوضع قرار الحرب والسلم في مكانها الطبيعي ألا وهو السلطة الشرعية والجيش الشرعي.
بدا الحرب منذ إكراه حكومة الرئيس سعد الحريري على الاستقالة واضطراره لمغادرة البلاد عام 2011، والاتيان بحكومة الصناعة الأسدية بصدد السيطرة على جميع مفاصل السلطة، إما مباشرة أو بواسطة القوى السياسية التي يمارس بحقها وصاية سياسية، لها دعائم خارجية أسدية وإيرانية واضحة. وقد أصبح بالإمكان الحديث سياسياً عما نسميه «الشيعية السياسية» وها هي بإيجاز اهم محطاتها وخطواتها لاحكام قبضتها على البلاد:
– مواجهة المحكمة الدولية وقيادة حملة مركزة ضدها قبل وخلال وبعد انشائها وإرسال محققيها في ما يتعلق بجريمة العصر ألا وهو اغتيال الرئيس الحريري، بل خاصة بعد قرارها الاتهامي بحق خمسة من أعضاء الحزب المعروفين بالضلوع في الاغتيال.
– تقويض الوضع الاقتصادي الداخلي عن طريق ضرب القطاع السياحي الذي ترافق مع سياسة معاداة العرب، وشل المرافق السياحية كافة.
– تسييب الوضع الأمني الذي ترافق مع تدهور الأوضاع في المدن الساحلية والبقاع الشمالي وبالأخص طرابلس عندما دخلت قوات حزب الله إلى سوريا وراحت تتورط في المعارك الدائرة هناك.
– إضفاء حالة عامة من الكساد السياسي والبوار عن طريق إكراه البرلمان على التمديد لنفسه فتعطلت الانتخابات النيابية.
– الموافقة على اعلان بعبدا بضرورة تحييد لبنان عن صراعات المنطقة العربية ثم الانقلاب عليه والإصرار على المضي في التورط في الحرب السورية.
– شنّ حملات تشويه واتهامات بحق الرئيس سليمان والإصرار على ثالوث «شعب وجيش ومقاومة» رغم اشتراكه في الحكومة الحالية.
– الدعوة الى مؤتمر تأسيسي تحت عنوان إعادة النظر في النظام السياسي ودستور الطائف للوصول إلى المثالثة وتداول الرئاسات الثلاث مما يشكل خرقاً فاضحاً للميثاق الوطني وبالأخص لاتفاق الطائف المعتبر عربياً ودولياً دستور لبنان الجديد.
– قيادة البلاد عن طريق تعطيل نصاب جلسات انتخاب الرئيس إلى الفراغ الدستوري الرئاسي وإصراره على عقد تسوية تؤدي إلى وصول رئيس يخضع لاملاءاته السياسية والعسكرية.
– قيادة البلاد في أيلول إلى تعطيل البرلمان نفسه فتصبح صلاحيات رئيس الجمهورية ومجلس النواب في مجلس الوزراء مجتمعاً والعودة مجدداً الى ممارسة الثلث المعطل، فعندئذ إذا أكره الرئيس سلام على الاستقالة، فدستورياً لمَن يتقدم باستقالته والحالة هذه؟
إنه التعطيل النهائي، هذا هو الحال الذي يرغب في أن يقودنا إليه حزب الله.