تأخذ الإدارة الأميركيّة وقتها في التحضير لضرب دولة «داعش» بهدف تأمين كلّ أهدافها للمرحلة التي ستَلي. فالواضح أنّ واشنطن تعمل لإنجاز الصورة الجديدة للشرق الاوسط قبل انطلاق الآلة العسكرية في مشوارها الحربي ضدّ أخطر مجموعة متطرّفة في العالم.
على نقيض أسلوب سلفه، يسعى الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب والمصالح، من دون أن يُسجّل خسارة جندي واحد. لكنّ لهذه السياسة أثمانها وشروطها، وأهمّها التعاون مع قوى أخرى دولية أو خصوصاً إقليمية، مع ما يعني ذلك من ضمان بعض مصالحها. ففي السابق، دفعت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش غالياً بعد وقوع جنوده في العراق في مصيدة الكماشة الإيرانية – السورية.
وتبيّن لاحقاً أنّ «القاعدة» سعت إلى استدراج القوات الاميركية لمزيد من التورّط البرّي، ما يُساعد رجال «القاعدة» على التغلغل أكثر في الجسم العراقي وارتفاع منسوب التعاطف مع الأفكار العقائدية لهذا التنظيم، إضافة إلى خوض حروب العصابات مع الجيش النظامي الاميركي.
ومع السياسة التي طبّقها أوباما مع وصوله الى البيت الابيض تحت عنوان «استراتيجية الخروج» من وحول الشرق الاوسط، ومن ثم اعتماد سياسة القوة الناعمة التي شكلت طائرات «الدرونز» إحدى ركائزها الاساسية، بدا أنّ واشنطن تفتّش عن قوى تعتمد عليها وتتّفق معها في إطار حماية المصالح المشترَكة. هكذا جرى تشجيع ثورات القوى الإسلامية مثل «الأخوان المسلمين» على اعتبار أنّها معتدلة، وهكذا سادَ الربيع العربي قبل أن تُمسك به سريعاً القوى الاسلامية المتطرّفة.
اليوم، هناك مَن يقول إنّ واشنطن حسَمت أمرها بالتعاون مجدّداً مع الانظمة الموجودة في المنطقة بما فيها النظام السوري، لكن بعد عملية تجميل تسمح بمنع تكرار أخطاء الماضي من خلال إرساء توازنات داخلية ما، عبر إشراك الجميع في السلطة ولو وفق معادلة مدروسة بعناية، وهذا ما بدا واضحاً مع ولادة الحكومة العراقية الجديدة.
فالقرار في الحكومة للناحيتين المالية والامنية بقيَ في يد حلفاء ايران، ما يعني أنّ إشراك الجميع في القرار الحكومي لن يُلغي النفوذ الايراني في العراق ومنه في الهلال الشيعي، لكن وفق صورة اكثر قبولاً.
وهذا الكلام يعني أنّ القنوات الخلفية والكواليس تشهد نشاطاً لترتيب التسويات والملحقات السرية في المنطقة والتي ستسبق تحرّك الآلة العسكرية. لذلك تحرّكت قنوات التواصل السعودية – الايراني والسعودي – القطري والمصري- السوري ولو بعيداً من الاعلام، والاميركي- السوري ولو عبر طرف ثالث.
صحيحٌ أنّّه من المبالغة الاعتقاد بأنّ الملف اللبناني قد حضر في هذه الورشة المهمة، لكن من البساطة في مكان الاعتقاد أيضاً أنّ لبنان سيبقى خارج تأثيراتها ونتائجها.
فالسفارة الاميركية في عوكر تتحضّر لاستقبال الطاقم الديبلوماسي الجديد الذي سيعاون السفير ديفيد هيل. صحيح أنّ موعد هذه التعيينات إنّما جاء في إطاره الزمني الطبيعي، إلّا أنّ اللافت كان أنّ الطاقم الجديد مكوّن من موظفين يُعتبرون خبراء ومن الفئة الممتازة الضليعة بشؤون لبنان والمنطقة. وهذا يعني أوّلاً أنّ أمام هؤلاء مرحلة مهمة وثانياً أنّ لبنان ما يزال يَحظى بنظرة مميّزة ومهمة بالنسبة الى واشنطن.
وفي سياق متّصل، ثمّة مناخ جديد بدأ يلفح الوسط السياسي بأنّ الاستحقاق الرئاسي لم يعد بعيداً. فحتى المتشائمين بدأوا يتحدثون عن امكان حصول خرق ما في مدة أقصاها شهر من الآن. بعض هؤلاء سمِع من السفير الاميركي مباشرة أنّ انتخاب رئيس جديد يجب أن يحصل في مدة أقصاها الشهر المقبل.
باريس التي انضمَّت الى التحالف الدولي خلف واشنطن ستباشر خلال ايام تحرّكها القائم على مبادرة منسّقة سلفاً مع الفاتيكان. ففي الداخل استحقاقات تشكل عوامل ضغط لصالح حصول الاستحقاق الرئاسي، مثل الاستحقاق النيابي حيث قرَّر مثلاً الرئيس نبيه برّي لعب ورقة إجراء الانتخابات النيابية حتى حافة الهاوية لحشر الجميع، وهو ما سيساعد في تدوير زوايا الاستحقاق الرئاسي.
لقاء رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله يبقى محورياً في هذا الاتجاه، وهو ما كان لينعقد أساساً لولا وجود مستجدات فرضت الحوار المباشَر بينهما. وقبل ذلك كان عون وعائلته قد لبّيا دعوة السفير الاميركي إلى العشاء في منزله في عوكر، حيث كان الطبق الرئيس فيه الاستحقاق الرئاسي.
لكنّ كل هذه المعطيات الداخلية على أهميّتها تبقى خاضعة للمناخ الاقليمي حيث التسويات وأوراق التفاوض وحسابات المصالح.
الوضع الامني في لبنان يخضع لهذا المنطق فقط. فالضغط من خارج الحدود وفي البقاع لا شك في أنه مرتبط بالتخاطب بين الدول، لا بل حتى ملف العسكريّين المخطوفين إنّما يخضع لهذا التجاذب أيضاً.
إذ إنّ قطر رفضت تحريك وساطتها الجدية إلّا بعد انتزاع اعتراف علني بدورها من الحكومة حيث عُيّن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم وسيطاً رسمياً.
وهو اعتراف يمنحها أوراقاً في لبنان، فيما السعودية بدَت متضرّرة من ذلك، وهو ما أدّى مثلاً الى نفي وزير الداخلية نهاد المشنوق وجود موفد قطري في لبنان قبل أن يُلغي زيارته الى قطر.