مجدداً تبدو فلسطين قادرة على بعث بعض الروح فينا، كأن الدماء التي تبذلها على مذبح الحرية والاستقلال تحفظ ما تبقى من ماء وجه العرب، فمبادرة وسائل الإعلام اللبنانية إلى تقديم نشرة أخبار موحدة عبر الشاشات المختلفة دعماً لفلسطين وانتصاراً لغزة التي تقاوم وحيدةً عزلاء الجبروت الإسرائيلي العاجز عن تحقيق ما يبتغيه من عدوانه سوى حصد أرواح الأبرياء وجلّهم من الأطفال والنساء، تندرجُ في هذا السياق حيث يغدو الدم الفلسطيني حجة علينا جميعاً ويحثنا على ابتكار ما يليق بفلسطين وتضحياتها.
مبادرة رمزية متواضعة، لكن رمزيتها ذات دلالة إذ تُثبت فلسطين، على رغم نكبتها المستمرة ووقوعها تحت بطش أبشع احتلال عرفه التاريخ المعاصر، وحالة الانقسام السياسي و»الحكومي» التي عاشتها لسنوات (لا يمكن فصل توقيت العدوان الإسرائيلي عن المصالحة الوطنية الفلسطينية)، أن بإمكانها العودة قبلةً توحيدية متى توافرت النية والإرادة معاً، وتأكيدنا على رمزية الخطوة لا يوقعنا في المبالغة والإفراط، لكنه أيضاً لا يحجب عنا دلالتها الموحدة ولو لنشرة أخبار في زمن الانقسامات والتشظيات العميقة على أنواعها، خصوصاً في ظل الحقيقة المأسوية التي تكشّفت خلال العدوان على غزة ومفادها أن فلسطين لم تعد أولوية عند جزء من الجمهور العربي، بل أن الجهل والعماء بلغا حد إشهار البعض تمنياته بأن تقضي اسرائيل على غزة وأهلها بذريعة الأخطاء المنسوبة لحماس هنا أو هناك، غافلاً عن كون الأخطاء اذا وقعت لا تمنح المحتل الاسرائيلي أي شرعية ولا تبرر له عدوانه اليومي على الشعب الفلسطيني.
نعرف أن الواقع العربي أشد تعقيداً مما نخال أو نظن، والتمنيات الطيبة لا تغير في واقع الحال شيئاً، مثلما ندرك ضرورة تحليل الأسباب التي قادت جزءاً من العرب إلى إسقاط فلسطين من أولوياته بل ومعاداتها أيضاً، قد لا تكون الآن اللحظة مناسبة لمثل هذا الأمر، فالأولوية الآن لنصرة الشعب الفلسطيني في وجه فجور الاحتلال وبطشه، لكن بعد توقف هدير الطائرات ودوي المدافع لا بد من طرح الأسئلة الشائكة والمعقدة ومواجهتها بشجاعة وصراحة، لأجل استعادة فلسطين موقعها الطبيعي في الوجدان العربي العام بعيداً من سياسات التفرقة القاتلة، وهذه لم تعد مهمة سهلة نظراً لكثرة الجراح في الجسد العربي المثخن وتكاثر التحديات المطروحة علينا جميعاً.
لا تغيب عن بالنا في غمرة الدعوة لاستعادة فلسطين موقعها العربي الطبيعي جسامة هذه المهمة، مدركين أن عملاً حثيثاً ودؤوباً جرى ويجري لطمس قضيتها النبيلة العادلة، وتضافرت الى جانب هذا العمل غير البريء سلسلة من الأخطاء التي ارتكبتها أنظمة وحركات وفصائل وقوى مختلفة باسم فلسطين، لكننا نصرّ على أن كل هذا لا ينبغي له أن يحجب عن وعينا وإدراكنا حقيقة أن فلسطين محتلة، وأن الاحتلال الغاصب لم يترك باباً الا وأقفله في وجه المراهنين على سلام موهوم معه، ولم يدع خياراً للشعب الفلسطيني سوى المقاومة المحقة والمشروعة التي لا جدال ولا نقاش في مشروعيتها، وأياً تكن الأخطاء التي لا بد من مراجعتها وتصويبها فإنها لا تُبطل حق الشعب الفلسطيني بمقاومة المحتل، ولا حقه (الشعب) علينا بالوقوف إلى جانبه والانتصار له.
مبادرة الإعلام اللبناني للتوحد رمزياً حول فلسطين، وهو الغارق في انقسامات واقع الحال اللبناني، تجعلنا نتفاءل ولو قليلاً في إمكانية أن يلعب الإعلام العربي دوره المنشود في إعادة فلسطين إلى موقعها العربي الجامع كما كانت على الدوام… ولعل لبنان أيضاً يحتاج هذه الخطوات على رمزيتها تماماً مثل حاجة فلسطين إليها وربما أكثر.