الرقيب علي السيّد والجندي عبّاس مدلج لم يُذبحا بسكين «داعش» وحسب…
لقد ساهمت في مثل هذه الجرائم النكراء، سكين الانقسامات الداخلية.. ومذابح الخلافات السياسية.. والإرهاب الفكري، الطائفي والمذهبي، الذي تمارسه الطبقة السياسية على هذا الشعب المعذّب.
لم يتورّع سياسيو آخر زمان، عن قطع رأس الجمهورية، وفصله عن جسم بقية المؤسسات الدستورية، وتعريض أمن البلاد والعباد لمخاطر داهمة، سعياً لمصالح فئوية، وتمسكاً، إلى حد العناد الكافر، بحسابات شخصية وأنانية، لا أساس لها، ولا ثمة أفق لتحقيقها!
شهيدا الشرف والواجب، هما ضحيتي خطاب المزايدات الفارغة، والانقسامات المغرضة، والتي أظهرت ضعف الجسم السياسي، وتضعضع الجبهة الداخلية. وكشفت حجم الثغرات في الوضع اللبناني، والمواقع التي يمكن النفاذ منها، لإحداث الاختراق المطلوب، لإرباك إدارة البلد المضطرب أصلاً!
وفيما كان دم الشهيدين البطلين يُصحّح اتجاه البوصلة، لإحباط مخططات الفتنة المذهبية، كانت تناقضات المواقف السياسية من قضية العسكريين الأسرى، وحول ملابسات معركة عرسال، ترمي بظلها الثقيل على الشارع، وتُغذي حملات المحرّضين على استغلال المشاعر الانفعالية، وتروّج لقطع الشوارع، واحتلال الساحات، وطرح الشعارات المنفرّة والبغيضة.
والأغرب من كل ذلك، أن بعض الأطراف الرسمية لم تكن بعيدة عن عمليات التعبئة والتحريض، بحجة استهداف الحكومة وبعض الاتجاهات السياسية، في حين كان استقرار البلد، وتماسك أوضاعه، في مقدمة الأهداف التي نال منها هذا التحرّك الغبي والمريب!
* * *
اختلاط دم البطلين السني والشيعي في ملحمة الصمود والتضحية، وارتفاع خطاب العائلتين فوق جراحهما الأسروية والشخصية، وتمسكهما بمناقبية الجيش الوطني، والمبادئ النبيلة التي استشهد دفاعاً عنها علي السيّد وعبّاس مدلج، ساهم إلى حدّ كبير في إحباط مخططات الفتنة، وتبريد أجواء الانفعالات، التي حاولت أطراف سياسية وغير سياسية، صبّ زيت الإثارة والتجييش عليها، رغم كل الأخطار التي كانت تهدد باحتمال نقل المعركة مع الإرهاب في جرود القلمون وعرسال، إلى فتنة داخلية لا تُبقي ولا تذر!
الكلام العفوي الذي صدر عن والديّ علي السيّد وعباس مدلج باعتبارهما الشهيدين، شهيدي الوطن أولاً وأخيراً، ودعواتهما للترفع عن الحزازات السياسية والمناطقية والمذهبية الضيّقة، ومناشداتهما للأهل والمناصرين بضبط النفس، وعدم الانجرار وراء الانفعالات الهوجاء، كلها مؤشرات لحجم المسؤولية الوطنية التي أدركها أهل الشهيدين، ببساطتهم وعفويتهم، ولكن بإخلاصهم النقي للوطن وللجيش الباسل، الذي يبقى خط الدفاع الأخير عن الدولة والصيغة والنظام!
* * *
وجاءت مبادرة رئيس الحكومة تمام سلام بتوجيه الكلمة الوطنية إلى اللبنانيين مساء أمس، لتلاقي هذه التوجهات المميزة والواعية، في التصدّي لمخططات الفتنة، ولمنع محاولات نقل النيران السورية إلى الداخل اللبناني، فضلاً عن تحذير بعض الأطراف المتلاعبة بعواطف النّاس، والمتاجرة بآلامهم، من مغبة مثل هذه المناورات، ومخاطرها على أمن واستقرار البلد، في هذه المرحلة العصيبة والحرجة بجميع المقاييس.
كلمة الرئيس سلام بدت وكأن صاحبها يفتقد ذلك المشهد الوطني الجامع الذي ضم وقفة كل الوزراء حوله، وهو يتلو بيان الحكومة الوطني في السراي الكبير، غداة اندلاع معركة عرسال.
أما زالت حكومة «المصلحة الوطنية» تضم المكونات الأساسية للقوى السياسية في البلد؟
كيف تسمح بعض الأطراف السياسية لنفسها بأن تُغرّد بعيداً في المزايدة على مواقف الحكومة التي تشكّل أحد أطرافها الرئيسيين؟
وهل المطلوب استهداف رئيس الحكومة، وشل حركته، بعدما تمّ قطع رأس الجمهورية، وتعطيل الاستحقاق الرئاسي؟
البلد في خطر داهم، والجمهورية محاصرة، والمؤسسات الدستورية على شفير الانهيار!
كل ذلك ليس بسبب «داعش» وأخواتها وحسب، بل وأيضاً نتيجة هذا الإرهاب المتمادي في حفر الخنادق وتعميق الانقسامات بين اللبنانيين.