تُحاصر غزة مرّة أخرى وتقصف فيما تقف سلطة «أوسلو» حليفة الاحتلال موقف المُعين والمُتصنّع للحيرة. الموقف العربي عبّرت عنه خير تعبير رسالة ودّ من تركي الفيصل إلى «الشعب الإسرائيلي» عندما دعاهم إلى مشاركته حلم السلام معهم. يريد هذا ان يُحقّق حلم والده: بأن يصلّي آل سعود في الكنيست الإسرائيلي. والمقاومة الفلسطينيّة – أو ما تبقّى منها – في حالة حصار خانق خصوصاً أن حسابات خالد مشعل تناقضت مع حسابات «القسّام».
لكن المقاومة الفلسطينيّة كانت في أوجّ قوّتها العسكريّة قبل قرار المغادرة من بيروت عام 1982. لماذا غادرت وهل كان قرار الانسحاب – الذي ترك المخيّمات الفلسطينيّة من دون وسائل دفاع ذاتي – صائباً؟ وهل كان بإمكان العدوّ ان يستفرد بأهل غزة وأن يسهّل إنشاء سلطة عملية لو لم تغادر المقاومة بيروت؟
تصعب إعادة رسم مسار التاريخ بعد حدوثه. الإغراق في سيناريوهات إعادة كتابة مسار التاريخ تغري في ساعات الهزيمة والإحباط والفشل. لكن لا شك في أن قرار ياسر عرفات بالمغادرة في صيف 1982 أثّر على تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي وعلى تاريخ المنطقة برمّتها. الوضع السياسي اللبناني لم يعد كما كان قبل مغادرة قوّات منظمة التحرير. لم يلحظ أحد ان الخطاب الطائفي والمذهبي البغيض لم يتسرّب إلى لبنان إلى بعد مغادرة منظمّة التحرير. ولم يلحظ أحد ان تدهور الاقتصاد اللبناني حدث بعد خروج المقاومة التي أنعشت الفكر والاقتصاد في لبنان.
لكن قبل الانقياد في الخيال السياسي الماضوي، يجب الإقرار – دفعاً للاتهام التلقائي بالمزايدة الخلفيّة – بالضوابط والضغوط التي أثّرت في قرار عرفات والقيادة الفلسطينيّة عام 1982 بالانسحاب من بيروت:
1) كانت قدرة منظمة التحرير على المماطلة وعلى الإصرار على البقاء في بيروت صعبة جدّاً بفعل تراكمات من أفعال مشينة و»تجاوزات» من حركة «فتح» ومن دكاكين عرفات اللبنانيّة والفلسطينيّة، والتي نفّرت قطاعاً كبيراً من الشعب اللبناني الذي كان متعاطفاً مع الثورة الفلسطينيّة: فقدت سمكة «الثورة» ماءها، بحسب تعبير ماو تسي تونغ.
قبل أسابيع فقط من بدء العدوان، كانت قوّات منظمّة التحرير تخوض غمار معارك ضارية مع حركة أمل، ولم تكن الأخيرة بريئة من إشعال المعارك خصوصاً أنها – مثل حركة فتح – كانت مُخترقة من أطراف إقليميّة عديدة (ألم يُعتقل نائب رئيس حركة أمل السابق، حسن هاشم – الذي طُرد عام 1986 – عام 2002 بتهمة التجسّس لمصلحة العدوّ الإسرائيلي؟) واستطاع إعلام العدوّ الإسرائيلي والإعلام اللبناني الحليف له إقناع كثيرين في بيروت الغربيّة ان كل المشاكل والإجرام ينبع من الشعب الفلسطيني، مع أن أبشع التجاوزات جرت من قبل لبنانيّين. كان المقاتل الفلسطيني يمشي مخفوض الرأس في تلك الأيّام لعلمه بتنامي ظاهرة العداء الشعبي لقوى الثورة الفلسطينيّة و»الحركة الوطنيّة». لنعترف: هناك من صدّق آنذاك أكذوبة ان العدوّ الإسرائيلي يمكن له ان يكون مُخلّصاً (بلغ الترحيب بالعدوّ أوجّه في بلدة «الغازيّة» في جنوب لبنان مثلاً، وغيرها من البلدات).
2) إن حجم القصف الوحشي والعشوائي من قِبل العدوّ الإسرائيلي ضيّق من قدرة المقاومة على إقناع السكان في بيروت بضرورة الصمود إلى ما لا نهاية.
3) لم يكن اليسار الفلسطيني الثوري في حالة فرض لوبي ضاغط للبقاء: كان وضعه في تلك الحقبة ضعيفاً للغاية، وكان دور جورج حبش، الزعيم السابق لـ»جبهة الرفض» الرائدة، محدوداً للغاية في ذلك الصيف. رمى ما تبقّى من «جبهة الرفض» معظم عناصر قوّته في أيدي أنظمة لا تعير لصمود الشعب الفلسطيني أهميّة (مثل النظام الليبي والعراقي والسوري في مراحل مختلفة من التحالفات). لو أن «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» كانت في وضع قوي ومتماسك آنذاك لكانت هي فرضت أجندتها كما فعلت في صيف عمّان 1970. لم تكن «الجبهة الشعبيّة» في موضع المُبادر.
4) كانت قيادات الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والقيادات الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة الرجعيّة (إن في «التجمّع الإسلامي» – «السنّي» طائفيّاً – أو في «جبهة المحافظة على الجنوب» – «الشيعي» طائفيّاً، التي أدخلت (الأخيرة) إلى القاموس اللبناني نغمة «خطر التوطين» لاستعمالها ضد مصالح الثورة الفلسطينيّة) تضغط مبكّراً من أجل خروج قوّات منظمة التحرير من لبنان وبأبخس الشروط، غير عابئة بمصلحة القضيّة الفلسطينيّة أو بمصلحة لبنان. أما قيادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة التي كان من المفترض ان تكون العوْن والمؤازر لـ»الثورة الفلسطينيّة» (ألم يبادر كمال جنبلاط إلى إنشاء «الجبهة العربيّة المشاركة للثورة الفلسطينيّة»؟) فكانت عنصراً ضاغطاً أو متآمراً ضد الثورة نفسها. ماذا تقول في «الحركة الوطنيّة» التي بادر زعيمها، وليد جنبلاط، إلى استقبال شمعون بيريز في قصره في المختاره وفي إشعال فرن الحطب على شرفه؟
5) غاب جمهور العالم العربي عن الحسابات السياسيّة في تلك المرحلة. كان – كما هذه الأيّام – مشغولاً بمباريات كأس العالم ولم يكترث، أو لم يعبّر عن اكتراثه، لوضع الشعب المُحاصر في بيروت الغربيّة. كان يمكن للشعب العربي لو تحرّك ان يضغط على حكوماته باتجاه تشكيل جبهة ضاغطة تحفظ لقيادة منظمة التحرير سلطة القرار
الإغراق في سيناريوات
إعادة كتابة مسار التاريخ يغري في ساعات الهزيمة
6) كان النظام العربي الرسمي، كما الآن، متواطئاً ضد منظمة التحرير وبعضها كان متواطئاً مع العدوّ الإسرائيلي (المحور السعودي – المصري كالعادة).
7) كان قسم كبير من الشعب اللبناني (ومن طوائف مختلفة) متحالفاً جهاراً مع العدو الإسرائيلي. وكان ذراع الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، أي «القوّات اللبنانيّة»، يشارك العدوّ في تضييق الخناق على العاصمة بيروت.
8) كان الاتحاد السوفياتي في مرحلة التضعضع ولم يكن في وارد فرض أجندة ضاغطة على أميركا وعلى العدوّ لصالح منظمة التحرير.
9) كان العدوّ يتمتّع أكثر من أي وقت مضى (حتى حينه) بدعم مطلق من الإدارة الأميركيّة وكان وزير الخارجيّة الأميركي، هيغ، قد أعطى «ضوءاً أخضر» لشارون ليفعل ما يشاء.
10) لم يكن ياسر عرفات يستجيب لطلبات قياديّة عسكريّة بارزة في منظمة التحرير من اجل التحضير الجدّي لاجتياح لبنان. والغريب أن عرفات كان قبل سنة من موعد الاجتياح يتنبّأ دوماً بأن اجتياحاً على طريقة «أكورديون» سيصيب لبنان من أجل تغيير الخريطة السياسيّة اللبنانيّة وللضغط على منظمّة التحرير، لكنه لم يتحضّر له عسكريّاً، أي انه لم يكن يأخذ كلامه على محمل الجدّ.
11) تقصّد العدوّ، وباعتراف المراسل توماس فريدمان آنذاك، أن يصيب أهدافاً مدنيّة لتشكيل ضعط شعبي مدني على منظمّة التحرير لطردها من لبنان ولإنهاء اتفاق القاهرة (فعل المجلس اللبناني بعد سنتيْن ما أراده منه العدوّ وألغى «اتفاق القاهرة» الذي كان يحفظ الحدّ الأدنى من الحقوق السياسيّة والعسكريّة لمنظمة التحرير).
12) لم يشكّل الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال عنصراً ضاغطاً على العدوّ ما أضعف القدرة الصموديّة للثورة في لبنان.
13) لم يشكّل عرفات قيادة عسكريّة سريّة جديّة من أجل إنشاء غرفة عمليّات مكرزيّة أو لا مركزيّة لقيادة عمليّات المقاومة في الأراضي التي تقع تحت احتلال العدوّ. ترك عرفات، كعادته، الأمور على غاربها.
14) لم تشكّل قيادة المنظمة التي لم تأخذ المقاومة على محمل الجدّ، كما فعل حزب الله ببراعة ومهارة فائقة، من أجل إنشاء شبكات تواصل ومواصلات سريّة آمنة. كان مرافقو قادة المقاومة، بمن فيهم مرافقو جورج حبش، يجولون شوارع بيروت للعثور – بالنظر والعين المُجرّدة – على مبانٍ آمنة للتحصّن فيها، وكانت تلك الأماكن معروفة، مما وضعها تحت مرمى نيران العدوّ وسيّاراته المُفخّخة.
15) لم تتحضّر قيادة المنظمة للعدوان عبر ضرب شبكات التجسّس والإرهاب الإسرائيلي في بيروت الغربيّة. كانت مسرح عمليّات معادياً مفتوحاً.
وفي هذا السياق، يجب درس تبعات قرار من نوع رفض الخروج من لبنان. ولقد حرص العدوّ على ترتيب أمور البيت اللبناني الداخلي بالقوّة كي يتزامن مع قرار الخروج من بيروت، وليس صدفة ان أيّاماً فصلت بين تنصيب السيء الذكر، بشير الجميّل رئيساً، وخروج القيادة الفلسطينيّة من لبنان.
كان يمكن بالرغم من كلّ تلك العوائق والمعوقات والضغوطات، ان يرفض عرفات الخروج من بيروت وأن يعدّ – ولو متأخراً جدّاً – جمهوراً لبنانيّاً وعربيّاً مسانداً لقراره هذا. كان عرفات يستطيع ان يعبّئ الجماهير (أما زالت هذه الكلمة تنغّص على ليبراليّي آل سعود أيامهم ولياليهم؟) من أجل كسب مزيد من عناصر القوّة. لكن عرفات كعادته كان يفضّل التفاوض السرّي من تحت الطاولة على المكاشفة الصريحة. كان عرفات يعد جمهوره بالصمود الستالينغرادي فيما كان قد وافق سرّاً على قرار الخروج من بيروت، وهذا بات معلوماً.
لكن مقاصد الوجود الفلسطيني العسكري في لبنان من منظور عرفات تفاوضيّاً محضاً. إن «خبريّة» التوطين (التي أطلقها محمد مهدي شمس الدين وشلّة الرجعيّة الشيعيّة التقليديّة آنذاك) كاذبة، وهي باتت الذريعة الفضلى عند حزب الكتائب اللبنانيّة الذي يريدنا أن ننسى ان حربه المعلنة لم تكن موجّهة فقط ضد منظمة التحرير والشعب الفلسطيني برمّته وإنما ضد أعدائه من المسلمين واليسار في لبنان. لم يكن ياسر عرفات ولا للحظة يريد ان يستوطن في لبنان، أو ان يقبل وطناً بديلاً. من الأكيد ان عرفات، لو قبل بالأردن وطناً بديلاً – وكان هذا الأمر معروضاً سرّاً على قيادة منظمة التحرير – لضحّت أميركا وإسرائيل بالملك حسين من أجل ذلك. لا، تستطيع أن تتهم عرفات بشتّى الاتهامات، ومنها وأد الثورة الفلسطينيّة ورهن القضيّة لمصالح أنظمة الخليج والرضوخ لطلبات العدوّ في أوسلو، لكنه لم يكن يسعى إلى وطن بديل.
كان يمكن على عرفات ان يتخذ قرار الصمود لو أنه قرّر قبل موعد الاجتياح (كم مرّة نقع أسرى عقدة «ضرورة عدم المبادرة لإطلاق النار ضد العدوّ»؟) بأن يشنّ حرباً استباقيّة في كل لبنان من أجل دحر القوى الانعزاليّة وتفويت الفرصة على العدوّ بعد حين لمنعه من الانقضاض بالكمّاشة على بيروت، ولفرض حصار خانق عليها. كان عرفات يمانع دوماً وذلك بالتفاهم مع دول الخليج ومع أميركا وحلفائها الغربيّين ان يدحر قوى الانعزال في لبنان، كما ان النظام السوري تدخّل بقوّة عام 1976 لمنع دحرهم وللأبد من أجل تقصير عمر الحرب الأهليّة.
كان يمكن لعرفات ان يتخذ قرار الصمود خصوصاً أن القوى العسكريّة المحاصرة، بما فيها قوى حركة امل في بيروت وغيرها، موافقة على قرار الصمود لو اتخذ، وكان معنويّات المقاتلين ترتفع بزيادة عزيمة التصدّي والمقاومة حول بيروت. أما عن رافد المقاومة السريّة تحت الاحتلال فكان يمكن الاستفادة منها لو ان عرفات وضع لبنات التحضّر للمقاومة وهو لم يفعل. وكان قائده المهزلة الحاج إسماعيل من أوّل الفارّين من أرض المعركة (من مدرسة ميشال سليمان العسكريّة).
إن قرار الصمود، لو اتخذ، كان حتى بمنظور ياسر عرفات قد استجلب له فوائد سياسيّة تفوق تلك التي (لم) حصل عليها (أي مبادرة ريغان السيّئة الذكر، والتي لم تكن إلا نشر مترتّبات «كامب ديفيد» على الوضع الفلسطيني واللبناني) وقرار الصمود زاد من إحراج الدول العربيّة التي كانت ستجد نفسها مضطرّة للضغط بدورها على الحكومة الأميركيّة مع الاعتراف بمحدوديّة نفوذ وكلاء أميركا في المنطقة.
لو أن عرفات قد قرّر الصمود كان بمستطاعه ان يفوّت على العدوّ إمكان التصويت بالحراب للمقبور بشير الجميّل. أما عن الرأي العام البيروتي والجنوبي الذي لم يكن متعاطفاً مع المقاومة، فكان يمكن تجاهله كما ان العدوّ فرض أجندته بقوّة السلاح. ولم يكن بمستطاع العدوّ أن يدخل بيروت بقواه البريّة لعلمه بمدى الإصرار والتصدّي المعتمر في نفوس المقاتلين السوريّين واللبنانيّن والفلسطينيّين المحاصرين. وكان كل يوم من الحصار والتصدّي الحقيقي يزيد من معضلة العدوّ الذي أراد أن يدخل العاصمة لكن من دون مقاتلة قوى الثورة المحاصرة.
لم يكن رصيد العدوّ السياسي أو العسكري يسمح له بدخول بيروت من دون تكبّد خسائر جمّة ومن دون دفع أكلاف سياسيّة باهظة. وكان قرار التصدّي، لو اتخذه عرفات، قادراً على تثوير الوضع العربي وإحداث تحوير للنظر عن مباريات «كأس العالم» المحتدمة. كذلك إن زخم المعركة الجويّة لم تكن ستغيّر كثيراً في مجريات المعركة لأن العدوّ استنفد ما لديه من قدرات جويّة إجراميّة وقام بقصف كل ما يريد في بيروت الغربيّة.
قبل أسابيع من بدء العدوان، كانت قوّات منظمة التحرير تحارب حركة أمل
وقرار الصمود في بيروت كان سيُجبر العدوّ على المنازلة البريّة الميدانيّة التي كان سيبرع فيها المقاتلون المحاصرون المصمّمون على النصر. وكان لعرفات لو أراد معيناً بشرياً من القوّات المنسحبة من الجنوب في البقاع وكان يمكن لها ان تفتح جبهة عبر الجبل (على افتراض ان صديق ومُضيف شمعون بيريز كان سيقبل بذلك، لكن كان بمستطاع عرفات وحلفائه تجاهله).
وماذا كان بمستطاع العدوّ ان يفعل بعد احتلال بيروت المُضيفة لأفضل مقاتلي المقاومة؟ وكم كان بمستطاعه ان يخوض غمار حرب استنزاف طويلة المدى؟ صحيح ان النظام السعودي – الأميركي كان يعتمد على صائب سلام والرجعيّة الإسلاميّة التقليديّة من أجل الضغط على عرفات، لكن هذا كان يمكن تجاهله أيضاً. عندها، كان تثوير الوضع في لبنان والعالم العربي خياراً حتميّاً لأنه كان سيعرّي الأنظمة والجماهير من مزاعم التعاطف الفارغ.
إن قرار الصمود حتى لو انتهى بهزيمة عسكريّة كان سيولّد جيلاً مختلفاً عن الجيل الذي ولد بعد الانسحاب من بيروت والذي كفر بالخيار العسكري لكثرة ما بدّده عرفات عبر العقود. لنفترض ان قوى العدوّ اقتحمت بيروت من مداخل عدّة بمساعدة القوّات اللبنانيّة الذيليّة لها، ولنفترض انه بعد أشهر كانت للعدوّ القدرة على السيطرة. لكان ذلك ولّد فرصة ذهبيّة لنشر قوّات مقاومة في لبنان كله للقيام بحرب عصابات مؤثّرة. هذا ما لم يفعله عرفات الذي قرّر بدلاً من العودة إلى جنوب لبنان ان يتحصّن في شماله وأن يخوض معارك لا علاقة لها بالصراع مع العدوّ الإسرائيلي. والرصيد المعنوي للمواجهة كان سيؤثّر في مسار تطوّر التنظيمات الفلسطينيّة ومسار صعود وهبوط القيادات. كان سيولد من رحم المعركة قيادات جديدة ستؤثّر حتى في الوضع التفاوضي للمنظمة – وهذا كان الهمّ الأساسي عند عرفات.
يمكن مقارنة وضع المقاومة في عمّان ١٩٧٠ عندما رفضت ان تغادر طوعاً وخاضت غمار معارك ضارية ووحشيّة (من قبل النظام الأردني الذي كان ينفّذ أجندة خارجيّة عدوّة والذي كان يعتمد على الحلف الأميركي – الإسرائيلي لإنقاذه). إن وضع المقاومة بعد انتقالها من الأردن إلى لبنان كان أفضل ممّا كان عليه وسمح لقيادات تجلّت في معارك «أيلول الأسود» من أجل ان تمسك بزمام الأمور في القيادة السياسيّة. وكان بإمكان المعركة لو حدثت توحيد كل فصائل المقاومة تحت عنوان الكفاح المسلّح وكان ذلك سيقوّض من الحل الاستسلامي الذي سعى عرفات إليه عبر العقود ولم يحرث إلا «اوسلو» المدمّرة. أما موضوع تنصيب بشير وأخيه فكان من أسهل ما تستطيع المقاومة وحلفاؤها اللبنانيّون فعله. والتمدّد في لبنان على حساب نفوذ القوّات كان سيقوّي وضع المقاومة وسيرسم معالم خريطة سياسيّة جديدة في لبنان.
طبعاً، من السهل الحكم من بعيد وعبر التاريخ وبالنظّارات التاريخيّة. وقد يتذكّر البعض النصائح من بعيد للطاغية القذّافي. الذي ذاق مرّ القصف ليس كمن لجأ إلى أماكن أكثر أمناً، أو من كان يقطن في بلد آخر. إن وحشيّة العدوّ في قصف بيروت الغربيّة عبر أسابيع الحصار كانت استثنائيّة حتى في عرف التقليد الصهيوني في الإرهاب. وقد رحلت عائلات كثيرة عن بيروت وبالتدرّج بسبب شدّة القصف والدمار. لكن هذا الحكم هو بمنظور التاريخ على أساس ما أصاب المقاومة الفلسطينيّة بعد انسحاب ١٩٨٢، وما أصاب لبنان ايضاً.
التاريخ لن يعود القهقرى. لا يمكن إعادة خوض معارك خاسرة وإلا كنّا رجعنا إلى ١٩٤٨ و١٩٦٧ لمنع النكبات المتوالية على العرب. لكن يمكن إخضاع الماضي بمعاركه لتحلي حاضر من أجل استخلاص العبر للمستقبل. إن قرار حزب الله بالمواجهة في حرب ٢٠٠٦ (عندما اختبأ ميشال سليمان ورفيق دربه العسكري، الماريشال للّو المرّ، تحت الأسرّة) غيّر في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأثّر في طريقة إعداد الجيش الإسرائيلي ومعنويّاته. تغيّرت أمور كثيرة عام ٢٠٠٦ بسبب قرار الحزب فيما كان حلفاؤه وأعداؤه يحثّونه على رفع الأيدي والاستسلام. كان يُعدّ في لبنان بشير الجميّل آخر عبر فؤاد السنيورة. قوّض صمود وشجاعة الحزب كل مشاريع العدوّ في لبنان والمنطقة.
لكن لم يكن ياسر عرفات، كما قال عنه زبغنيو برجنسكي (الذي يُعتبر بالمقياس الأميركي أبرز منتقدي إسرائيل ولوبيها هنا)، جديّاً في القتال أو في المفاوضات ما أضعفه على الجبهتيْن. لم يعدّ عرفات قوّات المقاومة للمجابهة العسكريّة. كل ما كان يريده هو استخدام القوّة العسكريّة بصورة رمزيّة تحريكيّة للفت أنظار الراعي الأميركي. بمعنى آخر، لم يكن عرفات بعيداً من أغراض ووعي أنور السادات. كان عرفات أقرب العرب إليه وإلى فهمه للصراع. عرف حدود ما وصل إليه عبر «أوسلو» متأخراً جدّاً وعندما وعى أهميّة القدرات العسكريّة قتله العدوّ.
إن قرار الانسحاب من بيروت لم يكن قراراً صائباً لا من منظور المصلحة اللبنانيّة ولا المصلحة الفلسطينيّة. إن ما مرّ على لبنان وفلسطين من ويلات بعد انسحاب قوّات المقاومة عام 1982 أثبت حجم الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه قيادة منظمة التحرير الفلسطينيّة. ولم يستطع العدوّ الوصول إلى أبو جهاد وأبو أياد وأبو الهول إلا في تونس (وبالتواطؤ مع السلطات التونسيّة). لم يكن هناك من نفع في الانسحاب لا بل هو سهل سياسة الاستفراد التي أتبعها العدوّ بعد توقعي اتفاقيّة «سيناء» الأولى. ليس بمقدورنا تغيير عجلة التاريخ لكن عجلة المستقبل لم تتحرّك بعد.