Site icon IMLebanon

ما يقوله المنطق عن حرب غزّة…

 

هناك منطق على علاقة بالمنطق، وهناك منطق اللامنطق الذي نشهد حاليا فصلا من فصوله في قطاع غزّة. يقول المنطق أنّ ليس في الإمكان خروج منتصر من حرب اسرائيل على القطاع. لا يمكن لـ«المقاومة» تحقيق انتصار عسكري في ضوء ما تمتلكه اسرائيل من قوّة نارية وقدرة على استخدام ارهاب الدولة من دون حسيب أو رقيب. ولا يمكن لإسرائيل الإنتصار على غزّة نظرا إلى أنّه لن يكون في استطاعتها في يوم من الأيّام الغاء الشعب الفلسطيني وإزالته عن خريطة الوجود. لذلك لا بدّ من مخرج سياسي.

هل من يريد البحث عن مخرج سياسي، أم المطلوب مزيد من القتل والدمار بعيدا عن لغة العقل والمنطق؟

لو كانت اسرائيل قادرة على الإنتهاء من غزّة، لكانت فعلت ذلك منذ سنوات طويلة. لم تكن اسرائيل تريد يوما البقاء في غزّة. غير مسؤول اسرائيلي، بمن في ذلك ارييل شارون، كان يتمنّى انشقاق البحر وابتلاعه غزّة. ولذلك، كان ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني يعرف تماما ما الذي يفعله عندما أصرّ لدى توقيع اتفاق اوسلو في العام على صيغة «غزّة واريحا أوّلا». كان طموح اسرائيل اقتصار اتفاق اوسلو على القطاع، نظرا إلى رغبتها في التخلّص منه أصلا.

لكن الزعيم الفلسطيني الراحل أصرّ على ذكر اريحا بغية ايجاد رابط بين الضفة الغربية والقطاع. أراد بكل بساطة تأكيد أن الحلّ لا يمكن أن يكون محصورا في غزّة وأنّ الدولة الفلسطينية المستقلّة لا يمكن أن تقتصر على غزّة. كانت غزّة في كل وقت معروضة على الفلسطينيين. كانت المشكلة في كلّ وقت الضفة الغربية التي تريد اسرائيل الحصول على جزء منها وضمّه، بما في ذلك القدس الشرقية.

ثمّة واقع لا يمكن تجاوزه. يتمثّل هذا الواقع في أنّ هناك من افتعل حرب غزّة التي كشفت مرّة أخرى ارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل. من افتعل الحرب يظلّ السؤال الكبير الذي هو في واقع الحال مجموعة من الأسئلة. من خطف المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة في الخليل قبل نحو شهرين؟ من تولّى تصفيتهم؟ كيف يمكن فهم رد الفعل الإسرائيلي الهمجي المتمثّل في خطف فتى فلسطينيا وقتله حرقا؟ من يفسّر الرد الإسرائيلي على ما حصل عن طريق المباشرة في قصف أهداف محدّدة في غزّة وتحميل «حماس» مسؤولية خطف الإسرائيليين الثلاثة ثم قتلهم؟ من أجرى تحقيقا أكّد مسؤولية «حماس» عن عملية الخطف؟ لماذا الإنتقال من الضفّة الغربية، حيث خُطف الإسرائيليون الثلاثة، إلى مهاجمة غزّة عبر شنّ غارات جوّية عليها؟

هناك سؤال أخير في غاية الأهمّية. لماذا قرّرت «حماس» كشف ما لديها من أسلحة، خصوصا من صواريخ متنوّعة بعضها طويل المدى، نسبيا، في هذه الظروف بالذات واللجوء إلى استخدامها، علما أنّه كان معروفا سلفا ردّ الفعل الإسرائيلي على استخدام الصواريخ وكشف وجود شبكة الأنفاق؟

من الواضح، أن غزّة دخلت حلقة مقفلة. الضحيّة الأولى أهل غزّة. أثبتت اسرائيل أنّها قادرة على القتل والتدمير. ليس هناك من يشكّ في ذلك. لكنّ حرب غزّة كشفت أيضا الطبيعة الحقيقية لدولة اسرائيل. تبيّن بكل بساطة أنّ ليس في استطاعة اسرائيل سوى الهدم وتعطيل عملية السلام. لو لم يكن الأمر كذلك، لكانت تشاورت مع السلطة الوطنية الفلسطينية في ما يجب عمله بعد قتل المستوطنين الثلاثة. لو لم يكن الأمر كذلك، لكانت اسرائيل وافقت منذ العام على المبادرة العربية للسلام التي أقرّتها قمّة بيروت. إنّها المبادرة التي تستجيب لكلّ ما هو مطلوب من أجل تحقيق سلام في المنطقة.

على العكس من ذلك، عمدت اسرائيل إلى تجاهل السلطة الوطنية من جهّة واستغلال قتل المستوطنين الثلاثة من جهة أخرى لتحقيق مآرب محدّدة. تجاهلت السلطة الوطنية وما يمكن أن تقدّمه من مساعدة في كشف من قتل المستوطنين. كان همّها منصبا على كيفية تبرير وقف أي مفاوضات من أجل التوصّل إلى تسوية تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية. كان هدفها الهرب من أيّ مفاوضات جدّية…إلى غزّة كي تؤكّد ما آمن به اليمين الإسرائيلي دائما وهو أنّ لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. الهدف من رفع هذا الشعار تكريس الإحتلال ليس إلّا. هل هذا ممكن في أيّ شكل من الأشكال؟

لا يمكن لغزّة إختزال القضيّة الفلسطينية، حتّى لو قتل الإسرائيليون ألفا آخر من ابناء القطاع ودمّروا مزيدا من المنازل والأحياء. القضية الفلسطينية تتجاوز غزّة. إنّها قضية مرتبطة بشعب يريد أن يكون له مكانا على خريطة الشرق الأوسط. لا يمكن لمحو غزّة من الوجود أن يؤدّي إلى أيّ نتيجة من أيّ نوع كان. محو غزّة، وهو ما تسعى إليه حكومة بنيامين نتنياهو، لن يلغي الشعب الفلسطيني ولا القضيّة الفلسطينية.

من هذا المنطلق، وبغض النظر عن صواريخ «حماس» وأنفاقها، لا مفرّ من العودة إلى البديهيات. البديهيات تقول أنّ المطلوب مقاربة شاملة للقضية الفلسطينية. مثل هذه المقاربة تعني أوّل ما تعني العودة إلى المفاوضات والشرعية الدولية. هل في اسرائيل من يعي هذا الواقع، أم كل ما هناك استثمار في صواريخ «حماس» وأنفاقها من أجل متابعة سياسة تجاهل الإحتلال. منذ متى كان الإحتلال سياسة؟ لماذا لا تعيد اسرائيل النظر في موقفها من مبادرة السلام العربية، أم تعتقد أن الضعف العربي يسمح لها في هذه الأيّام بالذهاب بعيدا في تحقيق مشوعها القائم على الإحتلال؟

في كلّ الأحوال، ليس في الإمكان تجاهل مصر عادت لتلعب دورها على الصعيد الإقليمي. مثل هذا الدور يفرض على اسرائيل التفكير بطريقة مختلفة، بعيدا عن الرغبة في تكريس الإحتلال وارتكاب المجازر وتدمير أحياء غزّة.

مصر لا تمثّل حاليا مصر وحدها. إنّها تمثّل اتجاها عربيا يعني أوّل ما يعني اعتماد العقلانية بعيدا عن المزايدات والصواريخ والأنفاق التي لا يمكن أن تخدم في المدى الطويل سوى حلقة العنف التي لن تجلب الأمن لإسرائيل يوما كما لن تؤدي إلي رفع الحصار عن غزّة. هل يبقى منطق اللامنطق سائدا؟ هل يبقى الشعب الفلسطيني وقضيّته مجرّد مادة يتاجر بها بعض العرب وغير العرب؟