ما جاء التغيير بالعراق، بقدر ما تأمل المعارضون السياسيون والمسلحون. لكن الأميركيين رحبوا به، وكذلك السعوديون، وبعض الأطراف الإيرانية، ومعظم الأطراف العراقية. فحيدر العبادي الذي سماه رئيس جمهورية العراق فؤاد معصوم لرئاسة الحكومة الجديدة خلفا للمالكي من قادة حزب الدعوة في المنفى وبعد الغزو. ومع أنه ما أظهر خلافا مع المالكي، فالمعروف أنه ما تولى مناصب رفيعة في إدارته. ويضاف لذلك أمر آخر لصالحه، هو أنه لم يعرف بالتعاون مع الميليشيات المسلحة التي شكلها الإيرانيون لدى سائر الأطراف الشيعية منذ عام 2004. إن الطريف أن المالكي وبعض معاونيه القريبين، كانوا هم الوحيدين الذين اعترضوا، وصدقوا بأي حجة: بحجة أن معصوم خالف الدستور، بعدم اختيار المالكي، زعيم أكبر كتلة بالبرلمان! أما المالكي نفسه والذي حكم السنوات الأربع الثانية بمفرده تقريبا، فإنه بالطبع ما خرج على الدستور قيد أنملة، رغم سقوط ثلاثين ألف قتيل في تفجيرات ما استطاعت أجهزة أمنه تلافيها، ورغم بقاء أهم المرافق معطلة مع مضي عشر سنوات على الاحتلال، وثلاث على الجلاء، ورغم الخروج على كل الاتفاقيات السياسية التي أنجزت لتشكيل الحكومة بعد انتخابات عام 2010 وتولي المالكي لمعظم الوزارات غصبا عن الجميع، وأخيرا رغم انهيار الجيش العراقي المليوني أمام هجمات «داعش» خلال ساعات. وهو الانهيار الذي ما استطاع الجنرال سليماني رأب صدعه، بعشرات الألوف من الميليشيات العراقية، والآلاف من جنود الحرس الثوري وخبرائه الأشاوس! هذه هي إنجازات المالكي «الدستورية» والتي كادت تقضي على العراق، بخروج السنة والأكراد إن اقتضى الأمر إلى دويلات مستقلة، في خضم حروب أهلية تبدأ ولا تنتهي! بيد أن ما فعله المالكي ما عاد غريبا، بل هو يتبع سنة (حميدة) سبقه إليها صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وبشار الأسد، أي بعدم مغادرة السلطة إلا بالموت قتلا أو بالقوة بغير قتل، بحيث يكون «ميت الأحياء» كما يقول الشاعر العربي. وفيما عدا ذلك؛ فإن زوال الوطن أو تهدد وحدته، أو إبادة شعبه، كل ذلك لا يدخل في حساب المغادرة؛ بل إنه بقدر التمكن من ذلك تتعاظم حسابات البقاء!
إنما من أين أتت القدرات الأسطورية للمالكي (مثل الأسد) على الصمود للسنوات الأربع الأخيرة؟! لقد أتت من مصدرين: الموارد المالية الهائلة التي تركزت بين يديه، والتي يخشى الآن المحاسبة عليها – والمصدر الآخر: التبني الإيراني للمالكي، وسيطرة الجنرال سليماني على الدولة العراقية أمنا وعسكرا وسياسات داخلية وخارجية! فقد تبين أن موارد العراق، ما كانت تنفق في معظمها على الأغراض الشعبوية والتقسيمية والطائفية وكسب الأنصار، وشراء الانتخابات وحسب؛ بل كانت تمضي إلى سوريا ولبنان واليمن والبحرين لتمويل الحروب والسياسات الإيرانية هناك. ولذلك فإن تغيير المالكي (تماما مثل تمرد داعش) فيه نيل شديد من السطوة الإيرانية. ومن هنا يأتي السؤال عن تأثير هذه التغييرات على السياسات الإيرانية، وهل تدفع باتجاه المزيد من الاستقطاب والجنون، أم باتجاه المراجعة وإعادة النظر في الحروب الطائفية والتقسيمية التي تشنها إيران من سنوات في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين!
في أول أيام الحدث العراقي 10 – 11 (حزيران)، 2014 صرح الجنرال سليماني بأن القائد لا يتغير أثناء المعركة. وهي الصرخة ذاتها التي أطلقها عند هبوب الثورة على الأسد. إنما يبدو أنه بعد الهبة العراقية؛ فإن الأمر مختلف هذه المرة بالذات. فالأميركان أبوا المساعدة إلا بعد التغيير. والعرب أكدوا على الحاجة للتغيير. وأخيرا فإن روحاني الرئيس الإيراني قال في سياق آخر إنه سئم الجبناء والمتطرفين. والجبناء هم الذين يهربون من التحديات الداخلية إلى الحروب الخارجية. وهم الذين يشهرون سلاح التطرف الديني والقومي في وجه سلطاتهم الوطنية، وجوارهم العربي. فقد تكفل الجنرال سليماني ومحازبوه بشن حروب طائفية جندوا لها قسما من شبان الشيعة العرب وغير العرب، بحجة صون التشيع من التكفيريين وصون العتبات المقدسة والمزارات الدينية من المتطرفين السنة. وقد اعتقد الرئيس روحاني أنه يستطيع زحزحة خصومه الداخليين هؤلاء من مواقعهم بتحقيق انفراجات في مفاوضات النووي وفك الحصار. لكنهم وخلال عام استطاعوا الصمود ليس بالاستظلال بالمرشد فقط؛ بل وبإظهار تشدد في الملف النووي، وفي الحروب على العرب! ويجد الإيرانيون الآن أن الملفين مترابطان: النووي، ومناطق النفوذ. فالمبادلة – كما شاع – غير ممكنة، بل هي كلام عوام. بمعنى أن التنازل في النووي كاف لفك الحصار، بل ولقبول الولايات المتحدة بمناطق النفوذ. أما الواقع فهو أن العرب ما انتظروا لتختلف إيران مع الولايات المتحدة؛ بل ثاروا طالبين التغيير بأساليب مختلفة ليس في مصر وتونس فقط؛ بل وفي سوريا والعراق واليمن. وفي حين انشلت الولايات المتحدة في سوريا بسبب الموقف الروسي؛ فإنها اتخذت موقفا آخر بعد أوكرانيا والعراق. وهكذا فإن التحديات للسياسات الإيرانية صارت صاعقة ولا يمكن تجاوزها لا بشن الحروب الطائفية، ولا بادعاء مقاومة إسرائيل، أو مكافحة الإرهاب! لقد حاول أنصار سليماني من قبل أن ينتقموا لهزيمتهم باستثارة حماس في غزة على إسرائيل، ليقولوا للأميركيين والعرب إنهم يستطيعون بذلك عقاب الأميركيين وتشويه سمعتهم بمذبحة إسرائيلية في غزة. والمذبحة حصلت بالفعل. لكن حماس عادت إلى مصر، والإنسان لا يتعلم درسا إلا من كيسه!
ما أنتجت موجة الجنون الإيرانية في فلسطين واليمن وعرسال وحلب بعد حدث العراق شيئا لإيران تقريبا، بل زادت من شقاء الشعوب العربية، ومن خسائر الإيرانيين وحلفائهم. وهناك إشارات (ومنها تصريحان لروحاني، والرضا الإيراني المبدئي عن التغيير في العراق) تدل على أن إيرانيي خامنئي قد يتعقلون ويتوقفون عن الحروب الطائفية والمذهبية تحت وطأة الاستنزاف، وعبثية المذابح اللانهائية، وتقسيم الشعوب والبلدان، وتعريض الشيعة العرب للعزلة والاستهداف. هذه هي الأعباء التي تتحملها إيران منذ عقد وأكثر من أجل الإمبراطورية، وجيوبوليتيك الشيعة، وولاية الفقيه، وتصدير الثورة! فمن عنده الشجاعة ليخرج على كل هذه الخنزوانات، ولا يظل متربصا في الاستقطاب؟!
هناك من يراهن على أن «التعقل» الإيراني الذي ظهر في الموافقة على استبدال المالكي، ستكون محطته التالية تمكين اللبنانيين من الوصول إلى مرشح تسوية على الرئاسة. بيد أن الخطوة الأولى قد تكون في التواصل مع العرب للتفاوض على سائر الملفات. وهو الأمر الذي طلبه منهم الأميركيون (التوجه إلى العرب)، ورفضوا من قبل بحجة أن العرب لا يقبلون التفاوض! وبالطبع ما كان ذلك صحيحا. إيران في أشد الحاجة للتفاوض الآن، فهل تفعل؟!