Site icon IMLebanon

مثل «لبنان الوطن».. منصب رئاسته رهينة

بين الأوهام والآمال، وحسابات الهزيمة والانتصارات، شغر منصب رئاسة الجمهورية في لبنان.

شغر المنصب لجملة من الأسباب، منها: أن في لبنان من ما زال مقتنعا – عن صواب أو خطأ – أنه إنسان حر له الحق في القبول والرفض، وحتما محاسبة من يدعون أنهم نوابه في مجلس النواب المولج بانتخاب الرئيس.

ومنها أن في لبنان ساسة كالرئيس ميشال سليمان، رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، يتميزون بالحياء واحترام الذات بقدر ما يعتزون بوطنيتهم، التي تمنعهم من استجداء المناصب من قوى «الأمر الواقع» المسلحة، ولا يتذللون لأسيادهم اللاعبين الإقليميين الذين أطلقت الإدارة الأميركية، بسلبيتها الفظيعة، أيديهم في أقطار المشرق العربي بلا حسيب أو رقيب.

ومنها أن هؤلاء اللاعبين الإقليميين، بسبب الموقف المعيب للإدارة الأميركية، وبنتيجة الدعم الروسي – الصيني اللا أخلاقي، يشعرون اليوم بأنهم انتصروا بالفعل في حربهم الهادفة للسيطرة على الشطر الشرقي من العالم العربي. وما تصريحات الملالي والقادة السياسيين والعسكريين الإيرانيين سوى تتويج ما ترتكبه جحافلهم على الأرض في سوريا من مجازر، وما يفعله أتباعهم في لبنان والعراق واليمن من إلغاء للمؤسسات السياسية وتدمير ممنهج للبنى السياسية والواقع الديمغرافي للأقطار الثلاثة.

اليوم تتصرف إيران كقوة إقليمية انتصرت على كل من تسول له نفسه شق عصا الطاعة على هيمنتها الزاحفة والمستقرة.. وانتهى الأمر.

والبيانات الصادرة في طهران عن زيارة أمير الكويت وترويجها الصيغة التي تريد كـ«جدول أعمال المنطقة»، تحت عنوان «مواجهة التكفيريين» المطاط، تؤكد هذا الشعور. وبدوره، كلام وزير خارجية بريطانيا ويليام هيغ خلال الأسبوع الماضي عن «خطر التكفيريين»، يعني تبني لندن فعليا وجهة نظر روسيا وإيران حول أولويات مقاربة الملف السوري على أساس «مكافحة التفكيريين».

ثم كيف ننسى «تحفة» الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام طلبة الأكاديمية العسكرية الأميركية في وست بوينت، حيث جدد التزامه سياسة تقوم على الإنكار والتسويف واللا فعل؟ لقد كان من السذاجة بمكان أن يقنع المتحمسون لطي صفحة نظام بشار الأسد في سوريا أنفسهم بوجود «تغير نوعي» في مقاربة إدارة أكدت على امتداد ثلاث سنوات أنها قررت نهائيا ألا تفعل شيئا.. مبررة ذلك بـ«تعب المواطن الأميركي» من الحروب!

هذا على المستوى الدولي، فماذا عن المستوى العربي؟

حال العالم العربي في اعتقادي أسوأ بكثير مما نحن على استعداد للاعتراف به. وأزعم من دون مبالغة أن إيران تنخرها المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وتستطيع، مع ذلك، ابتزاز العالم العربي واختراقه وتركيعه بالصورة التي نرى لدليل دامغ على ما نحن فيه من عجز وسوء تقدير.

التجاذب والتصارع على رئاسة لبنان يجريان أمام هذه الخلفية المأساوية. وصحيح الكلام عن أن الشارع اللبناني اهتز لمنظر آلاف «الشبيحة» الذين هتفوا لبشار الأسد ورفعوا صوره في طريقهم لـ«انتخابه» في مقر السفارة السورية بضواحي بيروت. لقد اهتز وتضايق لإدراكه أن ما أنجزه في ربيع 2005، عندما فرض بقوة الشعب سحب النظام السوري قواته من لبنان، كان سرابا خادعا. فـ«حزب الله» أدى دور «المحتل البديل» المكلف بتعطيل الدولة والاستقواء على مؤسساتها، ومصادرة الحياة السياسية، واصطناع العملاء والمحاسيب وجعلهم نوابا ووزراء وزعماء.

اليوم ينفذ «حزب الله» – الملتزم بتعليمات الولي الفقيه – المشروع الإقليمي المرسوم للمنطقة بحذافيره، فيعطل انتخاب الرئيس ويغير واقع البيئة اللبنانية على الأرض. وهو مثل القيادة في طهران، ومثل حليفيه في بغداد ودمشق، يتصرف على أنه «المنتصر» الذي لا بد أن يربح كل شيء. حسن روحاني، المدعوم ضمنيا من أوباما، يفرض منظوره الآيديولوجي على الشرق الأوسط، ونوري المالكي يتلاعب بالساسة السنة ضعاف النفوس في العراق ويلعب على تناقضاتهم ويقتادهم صاغرين لدعمه، وبشار الأسد يعيد «مبايعة» زعامته فوق جثث 300 ألف سوري وفي غياب عشرة ملايين آخرين.

هنا، كانت ديناميكيات انتخابات الرئاسة اللبنانية لافتة جدا.

لقد بادر الدكتور سمير جعجع، زعيم حزب «القوات اللبنانية»، إلى الترشح للرئاسة وأيده السواد الأعظم من نواب تحالف «14 آذار» المناوئ لمحور طهران – دمشق، وحصل على أصواته في الجولة الأولى من الانتخاب من دون الحصول – كما كان متوقعا – على الغالبية المطلوبة. وبعدها، لتفادي النصاب المطلوب قاطع نواب تحالف «8 أذار » التابع لمحور طهران – دمشق جلسات الانتخاب التالية، مبررين ذلك برفضهم جعجع بحجة أنه «مرشح تحد».

عند هذا الحد الأمر معقول. أما ما هو مستغرب، بل مستهجن، فهو زعم «التيار العوني»، السائر في ركاب «حزب الله»، أن زعيمه النائب ميشال عون يطرح نفسه «مرشحا توافقيا»، مع أنه إذا كان هناك سياسي لبناني واحد وقف معظم حياته ضد «التوافق» فهو ميشال عون. بل إن عون، الذي هاجم القريب والبعيد منذ اقتحم ميدان السياسة بعد انتهاء فترة رئاسة الرئيس أمين الجميل عام 1988، رفض حتى «التوافق اللبناني – اللبناني» في الطائف.. بعدما أيده البطريرك نصر الله صفير وسمير جعجع.

لعبة عون، ومن هم وراء عون، هو تسليم لبنان «دستوريا» لسلطة «الأمر الواقع» ممثلة بـ«حزب الله» وعمقه الإقليمي وفق وصفة «تحالف الأقليات» المضمرة. وجعجع كان يدرك سلفا أنه لن يربح، لكنه أراد إحراج حلفاء مترددين داخل «14 آذار» ففعل، وحسنا فعل. إذ ترشح، ثم أصر على البقاء في الحلبة. وبعدها، بعدما ازداد كلام العونيين عن التشاور بهدف التفاهم مع سعد الحريري، زعيم «تيار المستقبل»، سافر إلى فرنسا والتقى بالحريري. وكان لافتا أيضا ما حصل في فرنسا خلال مداولات الرجلين.

في ظني أن الهدف الحقيقي لبقاء جعجع مرشحا قطع الطريق على أي تفاهم يمكن أن يفرضه المناخ الدولي على الحريري. وهكذا، يشكل موقف جعجع، ومعه ولو من زاوية مختلفة موقف وليد جنبلاط، آخر الضمانات التي تجنب لبنان الانزلاق إلى التبعية المطلقة لـ«الحالة» التي ترسمها طهران للمنطقة