مع الشروق
يعرف المواطن العربي، في مختلف الأقطار التي يمنحها هويته في ما بين المحيط والخليج، أنه يعيش حقبة مختلفة عن كل ما عرفه في تاريخه الحديث… فهي الأكثر تعقيداً والأخطر في دلالاتها التي تأخذ إلى المجهول، خارج يقينه وخارج كل ما عرف من أنظمة بطش حكمته بالقوة لأجيال.
ولا يتردد هذا المواطن الذي يرى نفسه متروكاً للريح، بلا حماية، خصوصاً و«دوله» تنكره فلا تتعرف إليه، في أن يظهر استعداده لحماية موطنه، بدولته التي قد لا يقبل نظامها حتى بالسلاح في مواجهة هذا الطوفان الآتي من الجاهلية تحت شعارات «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
إن الخطر داهم. ومقدّماته تدلّ على أن «داعش» أقسى بما لا يُقاس من كل ما عُرف من أنظمة ديكتاتورية بأجهزة قمع وحشي، وكل ما يحفظه التاريخ من تنظيمات إرهابية مارست القتل الجماعي وهي تطلب السلطة في هذا البلد العربي أو ذاك.
ثم إن الأنظمة القائمة أعظم تهالكاً من كل ما سبقها… فبعضها قديم يشلّه الترهل والغربة عن العصر، فيحمي وجوده بالقمع، والمزيد من القمع، ولا يجرؤ على الرجوع إلى شعبه الذي ألغاه منذ زمن طويل، وهكذا فإنه يحاول تجنب المواجهة المباشرة مع هذا «الجنّي» الذي باغته بالخروج من القمقم، وكان إلى ما قبل فترة وجيزة، يعتبره «عدوّ عدوه» اذن فهو «حليفه»، ويتلبث مرتبكاً، منتظراً أن يحرك الخوف على المصالح «الدول» التي خاصمته والتي قد تضطر الآن لاعتباره حليفاً، ولو مؤقتاً، فتسانده بغير طلب وبغير قصد.
أما بعض الأنظمة التي جاءت بها الميادين، حديثاً، وعبر مواجهات مباشرة مع تنظيمات إسلامية كانت قد وصلت إلى السلطة في مصادفات قدرية، فهي غير معنية بما يدور خارج أرضها، وكل اهتمامها منصبّ على «حماية الداخل»، تاركة لغيرها من محصّني سلطتهم بالشريعة والدستور الإلهي وحكم «العائلة المقدسة» أن يتولوا مواجهة هذه «الدولة الإسلامية» الوافدة من خارج التاريخ.
… ولكن، من أين أتى «داعش»؟ ومَن استولده؟ ومَن رعاه فموّله ويسّر له الحصول على قدرات عسكرية مهولة؟ ومن زوّده بأسباب المعرفة وخرائط المنطقة، والتوزع السكاني، ونقاط التمايز بين أهلها، دينياً وطائفياً وقومياً وعرقياً، والحساسيات المعتقة في ما بينها والتي تمنع أو تبطئ توحدها في مواجهته، وقد تيسّر له الإفادة منها لضمان الصمت المؤيد، ضمناً، لاجتياحه بعض المناطق التي احتضنت عبر التاريخ أقليات قومية ذات جذور دينية مهمّشة، باختيارها، أو بقوة الأمر الواقع، التي جعلتها خارج السلطة وخارج دائرة التأثير على القرار؟
من مكّن لهذا التنظيم الآتي من الجاهلية أن يقتحم فيستولي على مدينة بحجم واحدة من عواصم التاريخ كالموصل؟ مَن تواطأ مع جحافله مسهّلاً اجتياحها ثلث مساحة العراق، بغير مقاومة تذكر، ثم ربع مساحة سوريا؟ وهل يكفي التذمر من سوء الممارسة أو سوء الإدارة أو حتى السلوك العصبوي، طائفياً أو جهوياً للنظام القائم في بغداد لتبرير سقوط الموصل ذات المليوني نسمة وذات الصفحات المضيئة في التاريخ الإنساني، بغير قتال؟ وهل وصل رفض النظام منقوص التوازن الوطني بالناس إلى حد التفريط بوحدة الوطن وسلامة شعبه؟
…ولكن مثل هذا الظلم كان قائماً في عهد صدام حسين الذي تكاد تلخصه حروبه التي تجاوز بها حدود العراق، غير مرة، فدفع من حياة أبناء شعبه ومن حقوقهم في ثروتهم الوطنية، ومن جدارتهم بمستقبل أفضل يستحقونه بكفاءاتهم، فلماذا ظل العراقي عراقياً ولم ينقسم على ذاته طائفياً وعنصرياً وجهوياً؟
إن معظم الأنظمة العربية القائمة تعيش حالة غربة عن شعوبها، تأخذ إلى الاسترابة بأي تحرك خارج اذنها وبعيداً عن عيونها. لكن المعارضات المختلفة لهذه الأنظمة ظلت تعلن تمسكها بوحدة الأرض والشعب توكيداً لوطنيتها وللفصل بين النظام والدولة، فهي قد تعارضه ـ حتى بالسلاح ـ حرصاً على الدولة ووحدة الشعب.
أما الخروج على الجغرافيا السياسية، ولو مفروضة، بذريعة العودة إلى التاريخ الذي مضى ولن يعود، وإلى حقبة محددة منه عفّى عليها الزمن ولم تعد قابلة للحياة، فأمر يتجاوز السياسة إلى الأسطورة، ولا تكفي أسلحة «داعش» مع شعار الخلافة لتثبيت هذه «الفتوحات» المبنية على استغلال ناجح لحالة تفكك النظام القائم أكثر مما هي تمهيد لقيام المدينة الفاضلة بالشعار الديني المطهر بالدولار الأميركي.
هل تدفع أثمان النفط العراقي أو السوري المنهوب بعملة غير الدولار؟ وهل يعرف «الخليفة» أن السمسار التركي يتكفل بشحن هذا النفط إلى إسرائيل التي يتعمّد تنظيم «داعش» حتى هذه اللحظة تجاهل وجودها ودورها في المنطقة، مع أن هذا الدور كان يعلن عن نفسه بالصواريخ، مدمّرة المساجد والكنائس والمدارس وبيوت الفقراء، اللاجئين مرة ومرتين وثلاثاً، في غزة… وهم، للمناسبة، جميعهم من المسلمين السنة تحديداً، المفترض أن يكونوا ضمن رعايا «الخليفة» المزين معصم يمينه بساعة رولكس!
لقد اجتاحت جحافل «داعش» دولتين عربيتين مؤثرتين، بتاريخهما كما بقدراتهما، كانت عاصمتاهما مركزين للخلافة، ولامست بنيرانها حدود دول كبرى في المنطقة (تركيا وإيران)، واستدعت تدخلاً عسكرياً أميركياً رمزياً، معززاً بزيارات عدد من المسؤولين الأوروبيين الكبار لبغداد عبوراً إلى أربيل، وبالتزامن معها ألقت الطائرات الأميركية كميات من الخيم والبطانيات والمعلبات الغذائية لطوابير المهجرين من البلاد التي شكلوا فيها ومعها بدايات التاريخ الإنساني…
لكن ذلك لم يغير شيئاً على الأرض… وفُهم وكأن الهدف من الزيارات والمساعدات دعم الحكم الكردي في اربيل وتحصينه ضد الهجمات المحتملة لتنظيم «داعش». أما الشأن السياسي فيبحث لاحقاً وبعيداً عن بغداد (التي بدّلت حكومتها المرفوضة) وعن دمشق التي لا يحظى اجتياح «داعش» لبعض مناطقها الغنية بالنفط بأي اهتمام، حتى وجحافله تقترب من الحدود التركية.
لم يكن تنامي قوة «داعش» العسكرية سراً من الأسرار، ولا كانت شعاراتها باستعادة الخلافة وإعادة شعوب المنطقة إلى حظيرتها مطموسة أو مموّهة، بل كانت معلنة عبر الرايات السوداء، والإعدامات الجماعية العلنية، كما أنها دوّت عبر الخطاب الأول لمن نصّب نفسه «خليفة» ومن فوق المنبر في مسجد تاريخي في المدينة التي تكاد تكون بين أوائل المدن التي بناها الناس عبر التاريخ.
ربما لهذا يمكن القول إن تنظيم «داعش» قد حقق انتصاراته حيث كانت الدولة قد سقطت أو ضُربت في شرعية القائم بالأمر، واستنزفت قدراتها في حماية النظام القائم على حساب الدولة والوطن.
لقد نجح «داعش» في اقتحام دولتين عربيتين، مهدداً دولاً عربية أخرى مجاورة، واستولى على مدن بناها رواد في التاريخ الإنساني، بقوات مهجّنة تضم أخلاطاً من رعايا دول لا تربط بينها وبين «الدولة الإسلامية في العراق والشام» حدود، ولا يربط بين الآتين إلى تنظيمه الأممي أهداف تخص أوطانهم (وبعضها في أوروبا وفي الأميركيتين وفي استراليا)… وكان هذا النجاح إعلاناً بفشل أهل النظام العربي في حماية أوطانهم ورعاياهم.
وفيما جاء هؤلاء «الأغراب» ليقاتلوا تحت الراية الإسلامية شعوباً لا يعرفونها في دول بعيدة جداً عن أوطانهم، فإن الحكام المعنيين بحماية هذه البلاد لم يهتموا لسقوط المحافظات والمناطق ذات الثروة النفطية، وتلبثوا ينتظرون النجدة الأميركية،… وهي نجدة للأنظمة القائمة وليس للأوطان التي لا تعيش بالحماية الأجنبية.
والحرب مفتوحة… ولسوف يحسمها النفط لا الدين.
ولسوف يكون على شعوب هذه المنطقة أن تبني دولها من جديد، وفي ظروف غاية في القسوة.