Site icon IMLebanon

مراجعات واجبة ومطلوبة في ظلّ حرب غزّة

أن تتكرّر الحرب على غزّة وفيها للمرة الثالثة في ستة أعوام، وأن تكون مرشحة للتكرار بعد فترة، أو لمذبحة هائلة سعى اليها الاسرائيليون، فهذا يدعو الأطراف الدولية والعربية الى أن تقرّر اذا كانت تتقبّله كما هو، فتتعامل معه كل مرّة بما يتوافر لديها من خيارات، أو أنها على العكس ترفضه ولا تريد له أن يتكرّر أو أن يُحسَم بهذه الطريقة الوحشية. في الحالين، لا بدّ لها من البحث عن نهاية للحرب الراهنة بجملة اجراءات ومعالجات تقصي احتمالات العودة الى التحارب، أو تجعل من الحسم مدخلاً الى واقع جديد مفتوح على تسوية عادلة. قد يقول الجميع، فلسطينيو السلطة والمصريون والجامعة العربية، وكذلك الاميركيون والاوروبيون، إن تأثيرهم في مواقف الطرفين محدود، ولم يكن لهم دور في قرار الحرب. لكن الواقع أن تأثيرهم وأدوارهم معدومة أيضاً في ما يواصلون تسميته «سلاماً» أو «عملية» أو حتى مجرّد «تفاوض».

هنا تكمن المشكلة. لم يعد أحد معنيّاً بالقضية الفلسطينية. الولايات المتحدة تعتقد أنها قامت بما عليها، فهل هذا صحيح؟ أما قولها إن «الطرفين» لم يتجاوبا فيعكس مفهوماً خاطئاً أصلاً لتسوية هدفها نزع الاحتلال، كما يضمر أن اميركا لم تستطع انتزاع أي تنازل من الاسرائيليين… والعرب الذين تشغلهم مشاكلهم الداخلية سلّموا ملف القضية الى واشنطن التي أخضعته للنزوات الاسرائيلية، لكنهم طرحوا «مبادرة سلام» عندما أدركوا أن اسرائيل وأميركا خرّبتا فكرة السلام، والآن يكادون أن ينسوا أن لديهم «مبادرة» هدفها تصحيح مسار «العملية»، ويتعاملون مع الأمر الواقع الذي فرضته اسرائيل وتعايشت معه اميركا… أما الفلسطينيون أنفسهم فوقعوا طواعيةً في فخ غزّة وصنعوا من الأرض الوحيدة التي انسحبت منها اسرائيل اضطراراً أرضاً للشقاق فاستخدمتها ايران لاختراق صراع تخلّى عنه العرب، كما استخدمتها اسرائيل لتقطيع الأرض الفلسطينية بل لخلق فلسطينَين: واحدة (الضفة) تبتلعها شيئاً فشيئاً بالاستيطان، وأخرى (غزّة) تدكّها وتدمّرها بين حين وآخر.

وأما حكومة الموتورين في اسرائيل فتتصرّف باعتبارها انتهت من قضية شعب لا تزال تحتل أرضه وتضطهده وتحتجز آلافاً من أبنائه رهائن في المعتقلات وتمارس ضدّه كل أشكال العنصرية. هذه حكومة حلّت القضية على طريقتها وبشروطها، وكأنه يكفي أن يجلس زعيم «ليكود» مع حلفائه ليتداولوا في أوضاع المنطقة العربية ويستخلصوا أن لم يعد هناك شيء اسمه قضية فلسطينية. حتى أنهم يحاججون – كأنهم يتوقعون شكراً – بأن حصيلة القتلى العرب في مجمل الحروب، بالإضافة الى الانتفاضات الفلسطينية أقل من حصيلة القمع والحروب الأهلية في أي بلد عربي، وسورية وليبيا والعراق واليمن أمثلة راهنة مستمرّة، وقبلها عراق/ صدّام والجزائر ولبنان. لكنهم يعرفون، على رغم ذلك، أن هذا لا يعفيهم من المسؤولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الاحتلال وسرقة الأرض الفلسطينية التي ارتكبوها ولا يزالون، بل يعرفون أيضاً أنهم لطالما تجاهلوا حقيقة وجود شعب فلسطين وحاولوا كثيراً إلغاءها وطمسها أو إخضاعها و «كيَّ وعيها» ولم ينجحوا.

أجمعت التحليلات المواكبة للحرب على أن «الجميع في مأزق»، لكن وجع البعض أضعاف أضعاف قلق الآخرين. وليس «الجميع» من يدفع الثمن دماً كأطفال غزّة ونسائها ومسنّيها أو عمراناً كأحيائها التي دمّرت بكاملها. وأظهرت تجارب غزّة أن وقف إطلاق النار شيء وإنهاء الحرب شيء آخر، كذلك إنهاء الصراع. لذلك فإن انشغال الديبلوماسية بالمساومات على شروط وقف النار تحوّل الى تلاعب بـ «ساعات التهدئة» والهدنات «الانسانية» على شطرنج المزايدات بين «محور ممانعة» تجرّد من كل أخلاقيته في حرب سورية و «محور تسوية» لم يعد لها وجود أو معالم. لذا فالأحرى بالتحليلات أن تجمع على أن «الجميع يتكاذبون» فوق جثث الضحايا، والمستفيدون الوحيدون هم الاسرائيليون والايرانيون الذين ذهبوا بعيدا في استثمار هذا التكاذب. وإذا كان «الجميع» يريدون إنجازاً حقيقياً، فالواجب الأول أن يُقلعوا عن انتهازياتهم ومتاجراتهم بالقضية الفلسطينية، حتى أن في مراجعة سياساتهم وتغييرها مصالح لهم غير الدناءات الفاسدة التي يتشبثون بها الآن ويعتبرونها مصالح.

هل ستنتظر الولايات المتحدة الحرب المقبلة في غزّة أو الضفة لتتيقن من حاجتها الى مراجعة سياستها في هذا الصراع؟ اذا كان تحالفها الاستراتيجي مع اسرائيل لا يتيح لها سوى تسويق أطماع الحليف وتمويل أمنه/ جرائمه وتغطية احتلاله/استيطانه وتحصين استثنائه من القانون الدولي وفرض شروطه اللامعقولة على العرب… فكيف لها أن تباشر أي «وساطة» ذات صدقية وأن تكبح الجموح والجنون لدى هذا الحليف الذي لا يتردد في تقريع الرئيس الاميركي وإهانة وزير خارجيته، وكيف لها أن تبلور أي «سلام عادل» أو حتى أن تمارس أي دور على الاطلاق اذا كانت لا تتوقع سوى تنازلات من الطرف الفلسطيني المغبون أصلاً وينتظر منذ سبعة عقود أن يُنصَف وينال حقوقه ويُحترم توقه الى الحرية. أي مراجعة ستُظهر لواشنطن أن ثمة حاجة الى مبادرة سلام جديدة، لكن ذلك يستلزم رئيساً اميركياً لديه ارادة لفعل شيء، أي شيء، خارج الصندوق الذي حبسه فيه بنيامين نتانياهو. ولا شك في أن نزع سلاح «حماس» وأخواتها مطلب تعجيزي وغير مقبول اذا لم يوازن اتفاق سلام حقيقياً.

ما الذي ينتظره العرب وقد تأكد لهم أولاً أن «عملية السلام» لم تكن سوى سراب مضلّل، وأن اسرائيل (وأميركا) ليست في وارد العيش في المنطقة إلا كعنكب يمصّ دمها ويبدّد طاقاتها ويفجّر تناقضاتها ويشيطن شبابها ويشوّه عقائدها، وتأكد لهم ثانياً أن ايران تستثمر في هزائمهم العسكرية، بل أيضاً في إخفاقاتهم في ادارة «معركة السلام» التي اعتقدوها محسومة – وهي الأصعب – فسلّموا أمرها للولايات المتحدة (أي لإسرائيل). المطروح عليهم اليوم هو الانتهاء من كذبة «السلام كخيار استراتيجي» أو تفعيل هذا الخيار ليصبح واقعاً معاشاً. فكيف لهم أن يلوموا أي فلسطيني يصرّ على مقاومة الاحتلال بالسلاح طالما أن اسرائيل ترفض ازالة الاحتلال بالتفاوض وتستخدم فائض قوتها لإدامته. لا تزال أمام العرب خيارات لتصويب الانهيار الحاصل، ليس بينها الحرب ولا الاستسلام ولا طبعاً اللعب (الثنائي) تحت الطاولة مع اسرائيل. فبعدما جرّبوا التصرّف كأنهم غير معنيين بالقضية الفلسطينية، ولم يتخلصوا منها، انتهزت اسرائيل غيابهم للتخريب والتعجيز واستغلّت ايران تخلّيهم للمتاجرة وملء الفراغ، لذا تبرز الآن مصلحة عربية في العودة الى احتضان القضية لأنها في صلب معطيات الوضع الاستراتيجي، الأمني والسياسي، لكل دولة بمفردها ولكل الدول مجتمعةً. فالسلام (الحقيقي) وإحقاق الحق في فلسطين كانا ولا يزالان معياراً ملازماً لتخفيف توترات المنطقة وإصلاح العلاقة بين الأنظمة العربية وشعوبها.

اذا كانت هناك وعود أو تعهدات سبق لفلسطينيي التسوية أن قطعوها لإسرائيل أو للولايات المتحدة (في سياق «اوسلو» وتطبيقه)، لذا تتعاملان معهم كمتورّطين أو متلبّسين، فإن اللحظة حانت لكشف الأوراق، ولأن تكون مصارحة عربية وفلسطينية بشأنها. ولعل السلطة الفلسطينية لم تنتظر حرب غزّة لتدرك أن التسوية السلمية المنشودة لم تعد قائمة، وهي بذلت محاولتها بشأن الاعتراف بها كدولة ثم أحجمت عن استغلال هذا المكسب وتأخرت في الكثير من الخطوات. فإذا كانت لديها خطط وبدائل، فإن وقتها هو الأمس ولا بأس في أن يكون اليوم، واذا كان خيار «المقاومة الشعبية» جدياً، فلماذا التلكؤ في تطبيقه؟ أما «حماس» والفصائل الاخرى فاستطاعت أن تسجّل جدوى المقاومة المسلّحة في تحريك «القضية» ويبقى عليها أن توضح أمرين: اذا كانت المكاسب التي توقعتها تتناسب مع التضحيات التي بذلها الشعب، واذا كان السير في الاستراتيجية الايرانية يمكن أن يقودها مجدّداً الى المشروع الوطني الفلسطيني.