التقنية الحديثة ومخاوف الدول من «أبنائها المتطرّفين» رفعت من مستوى الأداء اللبناني في مكافحة التطرف
مسؤول أمني رفيع: 4 عوامل وراء إحباط العمليات الإرهابية
«داعش» الجيل الثالث من القاعدة في مسار تصاعدي ولبنان لن يبقى بمنأى عن ارتداداته!
ثمة ارتياح عام لدى القيّمين على الأجهزة الأمنية، الذين يولون حيزاً من الاهتمام لملف مكافحة الإرهاب، للنتائج التي حققتها تلك الأجهزة، ولا سيما في الآونة الأخيرة، لجهة ترصّد وتعقّب الجماعات المتشددة المنتمية لتنظيمات مصنّفة إرهابية والحؤول دون توجيه ضرباتها ضد أهداف معينة على الساحة اللبنانية. هذا الارتياح الذي عَبّر عنه مسؤول رفيع في أحد الأجهزة التي تضع في سلم أولوياتها هذا الملف مردّه إلى عوامل عدّة، في مقدمها التنسيق القائم بين مختلف الأجهزة اللبنانية لجهة تبادل المعلومات وتوزيع المهام بما يُؤمّن نوعاً من التكامل الذي من شأنه أن يُسهم في تحقيق نتائج أفضل على هذا الصعيد. وثاني هذه العوامل يكمن في رفع مستوى التنسيق بين الأجهزة اللبنانية والأجهزة الأمنية الإقليمية والدولية المُولجة ملف مكافحة الإرهاب، خصوصاً في تعقب حركة تَنقّل الأشخاص المشتبه بانتمائهم إلى التنظمات المتطرفة ورصد خطواتهم وتعميم تلك التحركات بين الأجهزة. فالعمل الأمني لم يعد محصوراً داخلياً بل بات يتم على نطاق دولي، انطلاقاً من إدراك المجتمع الدولي بالخطر الذي يشكله هؤلاء، ليس فقط على الدول التي تشكل اليوم مسرحاً لعملياتهم بل أيضاً على دولها، خصوصاً أن عدداً كبيراً من المنتمين إلى الجماعات المتشددة يحمل جنسيات عربية وأوروبية، ويقاتل في صفوف تلك الجماعات، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن وغيرها من الساحات المشتعلة. وهذا التنسيق ساهم في كشف عددٍ من الشبكات وتوجيه ضربات استباقية لها. أما ثالثها، فيرتكز على التجهيزات التقنية الحديثة التي تسهم في جمع المعلومات وتحليلها، ومن شأن تعزيز هذا الجانب ومساهمة الدول المتطورة في تزويد لبنان بالمعدات المطلوبة، أن يرفع من مستوى الأداء الأمني اللبناني في هذا المجال.
ويذهب هذا المسؤول الأمني الرفيع إلى التركيز على عامل رابع، ولعله الأبرز والاهم، ويتمثل في القناعة الراسخة بأن البيئة السنّية في لبنان هي بيئة معتدلة في طبيعتها وتوجهاتها الدينية والسياسية، بحيث من الصعوبة بمكان أن تشكل بيئة حاضنة لتلك الجماعات المتشددة، وفي مقدمها تنظيم «داعش»، الذي نجح في السيطرة على أجزاء من العراق وسوريا، معلناً قيام الدولة الإسلامية، مستفيداً من الحرب الدائرة في سوريا بين النظام والمعارضة، ومن الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الطبقة الحاكمة في العراق. فهذه البيئة المعتدلة قادرة على نبذ ظواهر التطرّف والحؤول دون تمددها إلى النسيج المجتمعي اللبناني لتصبح حالة مسيطرة ومتغلغلة في العقول والنفوس، ولا سيما أن الحالة العقائدية، التي يشكلها «تنظيم داعش»، لا تشكل حال جذب فعلية في صفوف الاعتدال السني.
وفي القراءة الأمنية أن تنظيم «داعش» ارتكب الخطأ المميت حين أعلن قيام دولة الخلافة على بقعة سيطرته الجغرافية، ما جعله يتحوّل من تنظيم عقائدي جهادي يعمل بسرّية تامة تحت الأرض إلى تنظيم مكشوف بالكامل ضمن كيان محدد، يمكن مواجهته عسكرياً وتعقب حركته من قبل الأجهزة كافة بالوسائل المتطورة. فهو بإعلان دولته وتحديدها أعلن نهايتها، وبات هدفاً واضح المعالم والتكوين والمكان، ولن يكون بإمكانه أن يُـثـبّـت ركائز تلك الدولة، وانهياره ليس سوى مسألة وقت.
تلك القراءة الأمنية لواقع «داعش» قد لا تكون كافية، في رأي متابعين للحركات الإسلامية ومراحل تطورها، إذ أن هناك حاجة حقيقية لفهم التحوّل الذي حصل في فكر هذه التنظيمات التي ولدت من رحم تنظيم «القاعدة» بوصفه التنظيم الأم. فما نشهده اليوم هو الجيل الثالث من تنظيم «القاعدة» بعد المرحلة الأولى بقيادة أسامة بن لادن والثانية بقيادة أيمن الظواهري. وهذا الجيل الثالث يتظلل «القاعدة» عنواناً عريضاً لهدف الاستقطاب الجماهيري في صفوف الشباب الذي لا يزال منجذباً بفعل التأثير الذي تركه اسم بن لادن، لكن مجال عمل تنظيمات الجيل الثالث بات عملاً محلياً مركزاً في أماكن جغرافية محدّدة، بحيث بات يظهر أشخاص يبايعون «القاعدة» لكنهم يعملون بشكل مستقل. وتَحوَّل هدفها وأسلوب عملها، فما نشهده اليوم ليس حرب عصابات وتفجيرات على غرار أحداث الحادي عشر من أيلول وما شابهها، بل محاولة للسيطرة على بقع جغرافية بهدف إعلان الخلافة بما تشكله من خطوة تماهي مع التجربة السابقة لحركة طالبان في أفغانستان وأميرها الملا عمر، إذ لا دولة من دون أرض. وما يُميّز «داعش» اليوم أنه تنظيم يحظى بإمكانات تنظيمية عالية من حيث الطاقات البشرية المؤهلة علمياً وذات خبرات واسعة في مجال المعلومات والتقنيات والمعدات والفنون القتالية وتحظى بشبكة اتصال وتواصل متطورة، فضلاً عن الإمكانات المالية الكبيرة. وعلى خطى الملا عمر، يسير أبو بكر البغدادي في إعلان الخلافة في الموصل، فيما يتماهى مع القاعدي المنشأ أبو مصعب الزرقاوي والحرب المذهبية التي خاضها في العراق إلى جانب حربه ضد القوات الأميركية قبل أن تنقلب العشائر السنّية على تنظيم «القاعدة» من خلال «الصحوات» التي عملت القوات الأميركية على تشكيلها آنذاك.
على أن المأزق الراهن ينطلق، في نظر المتابعين لمجريات الأحداث في العراق، من عدم إمكان الرهان مجدداً على تجربة «الصحوات» في كبح جماح «داعش» وضرب تمددها واستحواذها بالمناطق السنّية، قبل أن تؤول التسوية السياسية إلى تبدلات جذرية في مسار الحكم، الذي اتسم على يد رئيس الوزراء نوري المالكي على مدى ولايتين، إلى التفرّد وتهميش السنّـة وإقصائهم وزجّهم في السجون وشن حرب على مناطقهم بذريعة محاربة الإرهاب، الأمر الذي يجعل العشائر السنّية تنكفئ عن محاربة «داعش» التي لن تكون أسوأ مما حمله حكم المالكي، الذي لا يزال متمسكاً بالترشح لولاية ثالثة تشكل عنواناً لاستمرار الأزمة، وتالياً لاستمرار صعود «داعش».
وإذا كانت الرهانات الأمنية، سواء في لبنان أو في الإقليم وربما دولياً، على أن سقوط «داعش» هو مسألة وقت لا غير، فإن قراءة المتابعين للحركات الأصولية تذهب في اتجاه آخر، بحيث ترى أن المسار الذي ستشهده المنطقة خلال الأشهر المقبلة لـ «داعش» وأخواتها هو مسار تصاعدي وليس انحساري، وذلك في ظل غياب التسوية الفعلية في المنطقة بفعل احتدام المواجهة مع إيران من خلال الجبهات المفتوحة بواسطة أذرعها وجماعاتها، من العراق إلى سوريا واليمن ومصر وغزة وحتى لبنان، الذي لن يبقى طويلاً بمنأى عن ارتدادات ما يجري حوله، وغياب القرار الإيراني بوقف تمدّده إلى الساحات العربية ودعمه لنظامي المالكي والأسد والحوثيين، بما يفتح الباب أمام توحّد المواجهة لخطر التنظيمات المتشدّدة الأصولية الذي تشكله على الأمة الإسلامية قاطبة، من دون أن يلغي ذلك الحاجة الماسة إلى مراجعة معمّقة ضمن المؤسسات الدينية السنية لاستبيان أسباب انجذاب الشباب السني لتلك الحركات، وإيجاد السُبل الناجعة لاستعادة هؤلاء من حضن المسلك الضال إلى طريق الإسلام القويم.