من التعليقات الشفهية أو المكتوبة التي تلقّيتها أو قرأتها على مقالي “هل هناك مسلمٌ معتدل؟” يوم الثلثاء المنصرم (5 – 8 – 2014) خرجتُ بالانطباعات والتأمّلات التالية:
1 – شيء ما عميق من اليأس (وليس الإحباط) ينبعث من بعض التعليقات المذيّلة بتواقيع أسماء مسيحية، بما فيها تواقيع لبنانيّة: إنه يأس (وأختار كلماتي هنا بتأنٍّ مضاعف) ما من قدرة النخب المسلمة عموماً على التصدّي الفكري الشامل لظاهرة التطرف التكفيري. المسألة الخطيرة هي ما إذا كان “المعتدلون” يخسرون أكثر فأكثر من الناحية العملية القدرة على السيطرة على التفسير النصوصي حيال المتطرّفين. ومصطلح “المتطرفون” لا يشمل الداعشيين و”طالبان” وأمثالهم من السلفيين السنّة والشيعة فحسب، وإنما أيضاً الأصولية الاجتماعية التي قد لا تكون حاملة للسلاح في وجه هؤلاء بل قد لا تكون مسيّٓسةً أصلاً ولكنها تساهم في انغلاق المجتمعات المسلمة.
2 – أشار أحد الردود الرصينة إلى أن الفكر المتطرف لا ينبعث فقط من البيئات الفقيرة كما أشرتُ في مقالي، بل إنه يظهر في بيئاتٍ ميسورةٍ وميسورةٍ جداً في العالم العربي والعالم المسلم. وهذه ملاحظة صحيحة. مع ما يترتّب عليها من نتائج ثقافية خطيرة تستدعي البحث أو استمرار البحث الجاد ولا سيما عبر أحد الأسئلة الكبيرة التي أطلقتْها أحداث 11أيلول 2001 وهو:
ما الذي يجعل أشخاصاً متعلّمين تعليماً غربياً عالياً وينتمون إلى الطبقة الوسطى والطبقات الغنيّة ينخرطون ليس فقط في حركاتٍ إسلامية متشدّدةٍ بل أيضاً في حركاتٍ إرهابيّة مثلما كانت هذه حالات المشاركين العرب في أحداث 11 أيلول؟
3 – هناك مراكز ثقل داخلية وخارجية للصراع الدائر بل الصراعات الدائرة في المنطقة في مقدمها حالياً الحساسية المذهبية السنية – الشيعية والتنافس السعودي الإيراني والنزوع الكردي الاستقلالي في عدد من دول المنطقة والطموحات التركية الجيوبوليتيكية المرتبطة تحديداً بوجود “حزب العدالة والتنمية” على رأس السلطة في أنقرة وطبعاً الامتدادات الدولية لكل هذه المسائل. ولكن للأسف ليس بين مراكز الثقل السياسية هذه وضع المسيحيّين المشارقة رغم الأهمية المعنوية الكبيرة لهذا الوضع. بهذا المعنى كان القرن التاسع عشر أكثر ملاءمة لمسيحيّي المشرق من اليوم. كان قرن “المسألة الشرقية”. أما اليوم فإن السياسات الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية لم تُظهر جديةً في حماية التنوع أو بقايا التنوع المشرقي الغني، في حين بقيت إسرائيل والنفط هما مركز الثقل الغربي (بما فيه الفرنسي). حتى الطور الجديد غير المسبوق منذ عام 1920 الذي نشهده حالياً مع انحلال دولتي سوريا والعراق ليس خارج أولويتي النفط وإسرائيل.
4 – ما نشهده في الواقع هو انحلال مجتمعات المشرق وليس فقط انحلال البنى السياسية والإداريّة لدولتي المشرق العربي الكبرييْن سوريا والعراق. وإذا كانت التيارات التكفيرية، وربما كل الإسلام الأصولي، هي الإفراز الأخطر الذي ساهم في هذا التدهور بعد الدور التفكيكي الذي لعبه تأسيس إسرائيل (والذي في حدّ ذاته كان من شأنه إنهاء الوجود اليهودي الاجتماعي في العالم العربي) فإن الوجود المسيحي يكاد يتلاشى ما عدا في بلدين ،لبنان ومصر.
لهذا يجد المسيحيون اللبنانيون أنفسهم أمام مسؤولية تاريخية ليس فقط باعتبارهم الكتلة المسيحية الأكثر فعالية ونفوذا سياسياً بين مسيحيي المشرق بل أيضاً لأن دورهم بات فريداً في السعي لوقف هذا المد الإستئصالي الجارف بين غرب غير موثوق النوايا ودول إقليمية نافذة غير حساسة عمليا لمصير الوجود المسيحي المشرقي حتى لو أظهرت مواقف متعاطفة فعلية.
مع ذلك وباستثناء تحركات الكنائس الإغاثية والاستغاثيّة لم تُظهر الطبقة السياسية المسيحية اللبنانية أي سلوك سياسي فعلي يعادل حجم الخطر من حيث أنها لا تزال أسيرة كاملة لمنازعاتها وتحالفاتها السياسية بينما المطلوب بالحد الأدنى إعلان حالة طوارئ سيكون الكثيرون من نخب المجتمع اللبناني متجاوبين معها ومع إلحاحها. ولربما كان حدثُ بلدةِ عرسال محفِّزاً في هذا الاتجاه بما يتخطى مجرد التضامن الإعلامي مع الجيش.
استراتيجية طوارئ لكل لبنان وتنوّعه الذي لا زال قادراً على مقاومة التصحّر. بهذا المعنى جميع اللبنانيّين في حالة طوارئ.
أرسل لي أحد القراء على بريدي الإلكتروني قائلا أن النخب المسلمة لا سيما العربية منها عليها أن تضع حداً لتقسيم غير معلن قائم على معادلة أن هناك نوعين من المسلمين: المسلم المتطرّف والمسلم الأقل تطرفاً…لصالح استبدالها الثابت بمعادلة: المسلم المتطرّف مقابل المسلم المعتدل.
لا أوافق القارئ العزيز على هذه النظرة القاسية. لكن علينا أن نعترف أن تأسيس إسرائيل ثم صعود المد الأصولي جعلا فعالية النخب المسلمة المدنية والعلمانية ضعيفة في معظم المجتمعات المسلمة. وهو ما ذكرته في مقالي السابق من أن معظم الأنظمة العربية التي حكمت بعد عام 1967 كانت وهي في ذروة مواجهتها في الأمن والسياسة للحركات الإسلامية الأصولية قد دخلت في وضع سبق أن وصفتُهُ قبل سنوات بأنه “تسليم السلطة الثقافية للمسلمين المحافظين أي للأصولية الاجتماعية” عبر قبولها التوجّهاتِ الدينيةٓ المحافظة بل تشجيعها هذه التوجّهات في القضاء والإدارة والجامعات والصحافة كنوعٍ من التأكيد على “إسلاميّتها الورعة” ضد التيارات الجهادية الأصولية.
إذن جوهر الموضوع هو مسؤولية النخب المسلمة حيال التيارات الإسلامية.