Site icon IMLebanon

مضافة بشّار الأسد الديموقراطية الدموية

 

ليس كافياً وصف الانتخابات السورية بالمهزلة، وهي بالفعل كذلك، سواء في بعدها الداخلي أو في بعدها الخارجي.

الأجدى التعبير عن الحزن الشديد لأن نظاماً كهذا لم يسقط بعد، ولأن الحرب المدمرة لسوريا لم تنته بعد، ولأن مهزلة اعادة انتخاب بشار الأسد لن تجعل منه فرنشيسكو فرانكو آخر، قادراً على سحق الثورة بتشكيلاتها المختلفة وفرض النظام بالحديد وبالنار، وعلى انتزاع اعتراف العالم به.

أبداً، إعادة انتخابه ستعني سنوات اضافية من الحرب السورية، وستحرّر المجتمع الدولي من التلازم الذي يقيمه بين نزع اعترافه بالنظام البعثي وبين تشكّل إطار رسمي واقعي ومتماسك لقوى المعارضة والثورة يمكن الاعتراف به. لا، صار الامران مفصولين تماماً.

والنظام تحرّر بدوره من كل شكلانية تتصل بالعلاقات الديبلوماسية والقانون الدولي، فما يعيد إنتاجه من «دولة» بموجب الانتخابات، لا يختلف جوهرياً عن صورة «دولة داعش» ومثالها. اذ تستكمل المهزلة الانتخابية عملية تحول النظام من نظام حكم تسلّطي في دولة إلى حالة جمهورية معلنة من طرف واحد، بشكل يذكر بأبخازيا وترنسنستريا ودونتسك، بل أكثر، يذكر بجمهورية كرايينا التي أقامها صرب كرواتيا في النصف الأول من التسعينات. طبعاً، تظهير مثل هذا الواقع يحتاج إلى جهود سياسية وميدانية من قبل قوى الثورة، والى حزم حقيقي من المجتمع الدولي في ما يتعلّق بالحؤول دون تسرّب أي شكل من أشكال الاعتراف بنتائج المهزلة «الانتخابية» السورية.

عنصر القوة في هذه المهزلة أنّها مهزلة واعية. يراد منها الاستهزاء بالديموقراطية والحكومات التي أتت بموجب انتخابات حرّة. يراد منها الاستهزاء بفكرة السلطة الانتقالية في سوريا التي تمحورت حولها مساعي الحل الدولي حتى الآن.

في المقابل، لا يمكن الرد على رقصة الموت الانتخابية تلك، بالاستهزاء بها، أو بإنكار أنها تشكّل حدثاً فاصلاً له قبله وبعده. هي حدث فاصل يفرض مسؤوليات جديدة على قوى الثورة. فما كان لبشار الأسد هكذا مهزلة لولا كومة الأخطاء الاستراتيجية في معسكر المواجهين له داخلياً وخارجياً، وفي طليعتها المكابرة على ما يفترض أن يكون مسلّماً به عند مواجهة أي نظام له طبيعة استبدادية ودموية، وهو أن لكل نظام من هذا النوع هرماً له قاعدة شعبية تضيق أو تتسع، وله قسم عُلوي تبنيه التداخلات والتقاطعات بين دعائم استمراريته وقمعه أخصامه والجماعات المستفيدة من استمراريته في حال السلم وتلك التي تبقى مستفيدة من استمراريته في حال الحرب الأهلية. وفي أعلى هذا القسم رأس الهرم، الذي يمكنه أن يبث وهم تجسيد الهرم التسلّطي ككل، ووهم التعبير الجوفي عن قاعدته.

بدلاً من هذه الرؤية البسيطة والبديهية لأي نظام له طبيعة تسلّطية، استبدت أوهام كثيرة بالثورة، منها أن النظام لا يملك قاعدة لهرمه، ومنها أنه ليس هناك قسم عُلوي متميز لهذا الهرم، ومنها أنه ليس لهذا الهرم رأس حقيقي. الانتخابات المهزلة هي مناسبة للتذكير بما كان يفترض انه بديهي: هو نظام له قاعدته الشعبية، وفي قسمه العلوي تجتمع خصاله، كنظام له عمق طائفي، وعسكري، ورأسمالي طفيلي يطمئن إلى «الاشراف» البعثي على السوق، أكثر من اطمئنانه إلى آليات السوق نفسها.

وهو نظام له رأس، عائلي وشخصي، ولا يتناقض الاقرار بأن له قاعدة مع الاقرار بأن له قسماً عُلوياً ورأساً أو العكس، على ما شاع الاستسهال. تماماً مثلما لا يلغي ذلك أن طابعه الفئوي صار نافراً بعد قمعه الوحشي للأنسجة الأكثرية في المجتمع السوري، ما يجعل من علة بقائه الطائفية تلك عقبة كأداء تحول دون أي دعاية من قبيل «أنا أمثل خيار الاستقرار» التي تقمع على أساسها الثورات في أماكن أخرى. لا، النظام السوري يقول ما معناه: الثورة فوضى، وأنا فوضى مضادة. حتى في الشمال الايطالي، بعد اندحار حكمه في روما، كان يطرح بنيتو موسوليني شعارات عن «ايطاليا الجديدة». ليس لبشار الاسد «سوريا جديدة» حتى ولو بقيت شعاراً. مع ذلك فإعادة انتخابه تجعله كمن يعلن كياناً جديداً، «ديموقراطياً شعبياً» من طرف واحد.

في حالات ثورية كثيرة، ينجح الخارجون على نظام تسلّطي بضرب وحدة هرمه، سواء بسحب قاعدته الشعبية، أو بتفكيك ترابط أجهزته، أو بتسديد ضربة قاصمة لقسمه العُلويّ، أو بالاطاحة الخاطفة برأسه. لم يحدث أي من هذا في الثورة السورية. لكن عدم حدوثه لم يؤد لا إلى تمكن النظام من إلغاء القاعدة الشعبية الثائرة عليه ولا من تمكين أجهزته من الظهور بمظهر أجهزة عضوية أو حتى رديفة للدولة.

على العكس تماماً، الهرم الذي يتشكّل حوله النظام الفئوي البعثي الدموي في سوريا صار يشبه كل شيء إلا «الدولة»، لأنه ليس عنده فكرة عن «سلام بالحديد والنار» يمكن أن يسعى جدياً إلى إعادة توحيد المجتمع السوري على أساسها. حيويته في عمليات قمع الثورة لا تلغي عجزه عن قمعها، وعجزه عن قمعها لا يلجم حيويته الاجرامية، بل ينمّيها، وليست سوريا لوحدها من يتشظى في جحيم تلك المعادلة.