ماذا تستطيع الشعوب العربية أن تقدم لشعب فلسطين الآن، بل ماذا تستطيع فئات واسعة من الشعب الفلسطيني في الداخل والضفة والشتات أن تقدم لغزة غير الاعتصار بالألم والامتلاء بالغضب؟ ليست المسألة فقط أن الشعوب العربية منشغلة في مشكلاتها الخاصة، ومحاصرة أيضاً بالنار وغارقة بالفوضى.. المسألة أن الاحتلال صار على سوية واحدة مع الاستبداد، وأن العرب يتعرضون في كل مكان إلى عملية منظمة لإنكار وجودهم كشعوب، وحقوقهم كبشر، ويُقتلون ويُهجَّرون تحت ذرائع شتى إعلاءً لسلطة الحاكم المحلي والإقليمي والدولي.
تتحول الشعوب العربية تدريجياً إلى جماعات حارسة لآبار النفط والغاز وطرق إمدادهما وإلى أدوات في الأمن الحيوي لدول الجوار القوية وإلى قطعان طائفية يستقوي بها هذا الزعيم أو ذاك.
فلسطين وحدها، وغزة وحدها، وكل شعب عربي وحده. لم تعد فلسطين وجهة العرب أو «البوصلة» ولا «الوطنيات» كذلك. المنخرطون في الصراعات المسلحة هم أجزاء، قطع، شقف، كسور من الشعوب والأمة. إذا كانت ثورة فلسطين قد وصلت إلى حد إنتاج انقسامات أهلية جهوية سياسية حزبية أيديولوجية، فكذلك وصلت «الثورات» العربية إلى ما يشبه ذلك وأكثر وأعمق وأبشع. فلا وطنية عراقية أو يمنية أو ليبية أو سورية أو لبنانية، بل جماعات سياسية ذات بعد طائفي أو قبلي أو ملحق بمشروع إقليمي ودولي. ما كانت إسرائيل لتفعل ما تفعل إلا لأنها ترى ثقافة العرب السياسية في هذا الانحطاط والتردي وأنهم أصبحوا يتشاركون معها في كثير من المفاهيم والقيم والممارسات.
يدور التاريخ العربي الآن حول حركات سياسية دينية مسلحة ودول بهويات دينية كذلك كما الفكر الصهيوني. فالصراع هنا صراع قوى مادية إلغائية تفكيكية تدميرية للمجتمعات وليس صراعاً بين التقدم والتأخر، بين مخلفات التاريخ وتشوهاته وبين مستقبل الحرية والعدالة.
قدمت الشعوب العربية الكثير لقضية فلسطين وقدم الشعب الفلسطيني الكثير لقضيته، لكن لم يراكم ذلك منجزات للتحرير. العرب اليوم أكثر تبعية من قبل، وأكثر انقساماً وأضعف مناعة.
غزة تقاوم ببسالة ولن تذهب تضحياتها هدراً. هناك إنجاز بالسلاح يهز المجتمع الإسرائيلي ويصفع قيادته المتغطرسة. وهناك قضية شعب تعود إلى الواجهة كلما أغرقتها المفاوضات العبثية في لجّة النسيان. لكن ذلك لا يعفي قادة الشعب الفلسطيني وفصائله من المسؤولية عن التقصير في صياغة الوحدة الوطنية والبرنامج النضالي الموحد. فمن المؤلم أن تصبح غزة صاحبة مشروع ليس هو نفسه مشروع السلطة في الضفة، وأن نرى القيادة الفلسطينية لا تتكلم لغة واحدة في وجه مشروع صهيوني يقضم المزيد من الأرض ويخلق وقائع جديدة لتفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية. هذا المسار مقلق لأنه يتكامل ويتزامن مع محيط عربي تضربه الفوضى وتسيطر عليه نزعات التفتيت والتقسيم.
صحيح أن نتنياهو لا يلقى تشجيعاً أميركياً لحربه العدوانية بعد أن أفشل مساعي وزير الخارجية الأميركي المكثفة للتقدم في المفاوضات. لكنه يعرف أنه لا يواجه ضغوطاً جدية بل هو يستثمر اليوم على ما يعتبره تهديداً «لأمن إسرائيل».
وهو كذلك ينتمي إلى الجبهة التي صار هاجسها أو شعارها «مكافحة التطرف والإرهاب». فقد اختلطت أمور كثيرة في المنطقة وارتفعت رايات التقسيم تحت مسميات قومية وطائفية، وانشغلت الدول الفاعلة إقليمياً باحتواء المشكلات والأزمات التي نتجت عن حلفائها وأدوات نفوذها. ربما لا يجني نتنياهو الكثير سياسياً من هذه الحرب لكنه مع كل عدوان بهذا الحجم يدمر البنية المدنية لغزة ويستنزف جزءاً مهماً من قدراتها العسكرية ويفرض، كما هو واقع الحال، تعطيلاً لأي مشروع وحدة وطنية فلسطينية. ورغم الابتعاد النسبي الذي حققته القضية الفلسطينية عن الصراعات العربية إلا أنها اليوم بشكل أو بآخر عادت من خلال غزة للارتباط بالنزاعات الإقليمية. ونكرر التجارب نفسها، ننتصر بالسلاح أو نقاوم ببطولة ولا نعرف كيف نبني مجتمعات مقاومة متماسكة وأن نستثمر بالسياسة حيث يجب أن تكون السياسة الوجه الآخر للقتال.