حسناً فعل تنظيم «داعش» باختيار اللون الأسود شعاراً للظلام الذي ينشره في المنطقة العربية. أي لون آخر كان سيصلح لهذه المرحلة الكالحة التي اختارها أبو بكر البغدادي لنا جميعاً، إلى أي طائفة أو عرق أو بلد انتمينا؟ ففي الوقت الذي تخرج مجتمعات العالم التي تعيش معنا على هذا الكوكب من ظلمة المذابح وتخلّف القرون الوسطى، شاء البغدادي وأرتال المتخلفين السائرين خلفه أن يذكّرونا بأسوأ ما في النفس البشرية من قدرة على الحقد والإجرام. وهكذا، وبينما تتجه شعوب الأرض إلى نسق من التعددية الحضارية والتسامح الثقافي وتوسيع مساحة العيش مع الآخر المختلف، لا يجد «داعش» سوى قتل هذا المختلف كوسيلة لحل «مشكلة» الاختلاف معه.
ما يفعله «داعش» هو أخطر بكثير من تغيير الخرائط ومن إزالة حدود سايكس بيكو، كما يفاخر في غمرة «انتصاراته». «داعش» يرسم في المنطقة خريطة جديدة عنوانها الانتماء الى ما يدّعي هذا التنظيم الإرهابي أنه «ثقافة» المنطقة. الذبح والتهجير هما السلاح الوحيد لرسم هذه الخريطة فوق أشلاء الضحايا وخراب البيوت. وإذا كان مشهد عشرات الآلاف من الأيزيديين الرحّل قد هزّ ضمير المجتمع الدولي، فإن هذا المشهد أصبح عادياً بالنسبة إلى محطاتنا، لا يقل في عاديته عن مشاهد القتل، التي باتت جزءاً لا بد منه في نشراتنا الإخبارية. قوافل من شعوب المنطقة تترك أرزاقها وكل ما تملك وتهرب من الموت إلى ما يشبه الحياة الجديدة على أعالي الجبال أو في مخيمات اللجوء أو على طرق الصحارى المفتوحة. لم تعد الحروب المشتعلة في دول المنطقة العربية قائمة فقط لاختراق الحدود أو للسيطرة على الحكم، أو حتى لتغليب طرف في البلد على طرف آخر. ما نشهده اليوم هو أخطر من ذلك بكثير. ولم نكن بحاجة إلى مشهد الأطفال والنساء والعجائز الهاربين فوق جبل سنجار ليذكّرنا بأن هناك إعادة رسم لمجتمعات المنطقة، وهي أخطر بكثير من إعادة رسم الخرائط.
كل العناصر التي تعزز موسم الهجرات متوافرة بكَرَم استثنائي. مجازر الحروب الداخلية بين المكوّنات، على ما نشهد في الحرب السورية، لا تعفي أحداً من المسؤولية. النظام ارتكب فظائع بحق المناطق السنّية التي اعتبرها عاصية وغير طيّعة. وفي المناطق التي تمكنت فيها المعارضة، لم تقصّر أبداً بحق من اعتبرتهم موالين للنظام أو ممّن ينتمون الى الطائفة التي ينتمي رئيسه إليها. والنتيجة في الحالتين أن عمليات تهجير واسعة حصلت بين مختلف المناطق، حتى صارت المدن والقرى السورية، أو ما بقي منها، مختلفة اليوم بالكامل من حيث تركيبتها السكانية عما كانت عليه في آذار (مارس) 2011.
أما في العراق، فدعك من الانشطار الذي ظل قائماً بين مناطقه السنّية (الى الشمال والشرق) والشيعية (في الجنوب)، والتي لم يحصل بينها أي عملية اختلاط وطني حقيقية طوال المرحلة التي كان يفترض أن فيها حكماً غير طائفي و «علمانياً» في ظل حزب البعث، وتأمل حال العاصمة بغداد، التي كان يفترض أن تكون مكاناً طبيعياً للانصهار الوطني. بغداد تحولت اليوم الى كانتونات سنية وشيعية. والمناطق على جانبي الكرخ والرصافة تم عزلها بأسوار خرسانية أو بنقاط تفتيش أمنية. أما القتل المتبادل فإنه يحمل الهوية الطائفية بنجاح استثنائي منقطع النظير.
حال الأيزيديين إذاً ليست استثناء، وإن كانت اليوم تدفع الدول التي رفضت طوال سنوات إغراق يديها في هذا المستنقع الى التدخل. إنها تعكس الصورة الفاقعة التي يسعى «داعش» إلى نشرها على أنها الصورة الحقيقية للمجتمعات العربية. مجتمعات تنبذ فكرة التعايش مع الآخر المختلف، وتسعى مكوناتها جاهدة إلى عملية تنظيف داخلية تأمن فيها إلى أن الجيران ينتمون إلى القبيلة نفسها أو المذهب ذاته.