جئت إلى المغرب قبل يومين لحضور إفتتاح مهرجانات فاس للإنشاد الصوفي العالمي، حيث يجتمع في هذه المدينة كلّ عام أرقى ما لدى الشعوب والثّقافات والأديان من حبّ واحترام للخالق والمخلوق، تعبيراً وعزفاً وطقوساً، للتأكيد على رسالة الحب والخير التي جاءت بها كلّ الأديان والمعتقدات لدى كلّ الشعوب بدون إستثناء، ويقدمون هذا العام عرضاً استعراضياً لكتاب «منطق الطير» العابر للثقافات والشعوب.
تأتي زيارتي بعد أسبوع حافل من المتابعة لسلسلة لقاءات سياسية رفيعة ومتزامنة، إذ التقى في مصر خلال حفل تنصيب الرئيس المصري قادة كلّ من السعودية والكويت والإمارات والأردن وفلسطين والبحرين فيما يشبه اظهار تحالف عربي جديد، وذلك بالتّزامن مع زيارة الملك المغربي إلى تونس التي استمرّت أسبوعين تنقّل خلالها بين الناس للتّأكيد على وحدة المغرب العربي، وأيضاً بالتّزامن مع إجتماعات باريس والنورماندي التي جمعت الرئيس الأميركي والروسي والفرنسي مع الرئيس الأوكراني المنتخب، وكذلك إجتماعات مطوّلة بين أركان الدول الثمانية الصناعية، وفي ذلك عودة للعلاقات الدولية إلى انسيابها والتي قطعتها أحداث أوكرانيا، وفي ذلك أيضاً عودة لمجلس الأمن إلى حيوياته التي تعطلّت مع هذه الأزمة، كما جاءت زيارة الرئيس الإيراني إلى أنقرة ولقائه مع الرئيس التركي وتلك هي الزيارة الرسمية الأولى منذ العام 96 لرئيس ايراني إلى تركيا، وبالتزامن أيضاً مع ما أعلن عن الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية السعودي إلى روسيا للقاء الرئيس بوتين، والأهم كان إجتماع الرئيس الإسرائيلي بالرئيس الفلسطيني مع قداسة البابا في الفاتيكان والصلاة من أجل السلام.
أعتقد بأنّ كلّ تلك الإجتماعات المتزامنة هي أشبه بإعلان حالة طوارئ لدول العالم والدول العربية والدول الإقليمية ودول الجوار العربي، وأنّ القضية الأساس في كلّ تلك اللقاءات والإجتماعات هي حول ما يدور في الوطن العربي من تحوّلات وتطوّرات وتغيّرات حيث الفشل المجتمعي الذي يؤدّي إلى الدولة الفاشلة، وذلك هو حال مجتمعات الأنظمة في كلّ من ليبيا وسوريا والعراق.
يتابع الأصدقاء من النخبة المغربية كلّ تلك الإجتماعات وأسبابها وما يمكن أن ينتج عنها، ويربطون فيما بينها لعلاقتها بالأوضاع السائدة في وطننا العربي، «من المحيط إلى الخليج» بدون إستثناء، وهذه هي المرة الأولى التي أجد فيها معنى واقعي لهذا الشعار القديم الذي كنّا قد نسيناه، إذ يعيش المغاربة هموم المغرب العربي وتحوّلاته في ليبيا وتونس وموريتانيا والجزائر، كما يعيش المصريّون هموم وادي النيل ومنابعه، وكذلك يعتبرون أمن الخليج العربي هو جزء من الأمن القومي المصري وعلى حدّ تعبير الرئيس المصري «مسافة السكّة».
يتعامل الأصدقاء المغاربة بحكمة وهدوء مع الأصداء الدامية لداعش في العراق والتي تزامن إحتلالها للبصرة وغيرها واتّساع إنتشارها في العديد من المحافظات العراقية مع كلّ تلك الاجتماعات العربية الإقليمية والدولية، لأنّ العراق دخل في تحدّ وحدة المجتمع والدولة، وأنّ الفشل المجتمعي الذي أسّس له نظام صدام بالاستبداد والقمع، إذ كان يعتبر أنّ قوة الحزب هي قوة الدولة والمجتمع كما كان الحال في سوريا، لأنّ حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، وبالتالي فإنّ نجاح الحزب في السيطرة على النّظام هو نجاح للدولة والمجتمع في آن، ويعتقدون بأنّ حكّام العراق بعد صدّام هم نسخة جديدة من حزب البعث بأفق أضيق وأكثر إقصائية وتفلّت، لأن البعثيين حافظوا على وحدة الجيوش بينما الأميركيون والإيرانيون حلّوا الجيش العراقي، فجاء حكام العراق الجدد ليشهدوا على تفكّك العراق الدولة والمجتمع، وبثأريّة ضيّقة تحت راية «الاجتثاث» والتي لا تتسّع حتى لأبناء المذهب الواحد من الشيعة العرب، وولّدت ثأرية ضيّقة لدى فئة من السنّة العرب، أيضاً لا تتسع لأبناء المذهب الواحد،
يعتقد الكثيرون هنا بأنّ ما بدأ في العراق قبل أحد عشر عاماً لا بدّ أن ينتهي في العراق، وحدةً كان أم تفتيتاً، وأعتقد بأنّ داعش أظهرت أزمة الوحدة المجتمعية لدى الشعب العراقي، وجعلت من وحدة المجتمع والدولة قضية لا تأجيل لها ولا مناورات حولها، وأنّ هول ما يحدث وتداعياته على العراق والخليج والمشرق يجعل إيران وتركيا تصابان في الطموحات بينما يصاب العرب في قلبهم وأرضهم ونسائهم وأطفالهم، فالقاتل عربي، والمقتول عربي، والنفط الذي يحترق عربي، والنجف الشريف عربي، وحمص ومزاراتها الشريفة عربية، ودير الزور وريف حلب ومحافظة صلاح الدين والأنبار وبغداد، كلّها عربية، وهذا ما دفع الرجال والنساء والشيوخ والأطفال والعلماء، الشّيعة والسنة، والقبائل والمدن، بعد تفكّك الجيش مرة أخرى، بالدّعوة لحمل السلاح للدفاع عن العراق الذي لا أجد سبباً حتى الآن لعدم قيام الدولة فيه خلال أحد عشر عاماً مع كلّ البلايين التي صُرفت والملايين التي سُرقت والجيوش التي احتلت والعقائديين الذين حكموا.
أعلنت داعش منذ ولادتها الملتبسة عن قيام دولة الإسلام في العراق والشام، وبصرف النظر عن موقفنا منها وأخواتها من أصحاب ذات الدعوة، ولدى كلّ المذاهب والأديان، إلاّ أنّ المهم في ذلك الإعلان هو سعيهم الى إقامة الدولة كما يرونها ويفهمونها، مجاهدين كانوا أو إخوان أو دعوة أو غيرها من التّكونات المشابهة، لأنّ كلّ تلك الدعوات تؤكّد أمراً واحداً هو أنّنا لم نقم بعد الدولة العربية المدنية الحديثة التي تحافظ على الإنسان الفرد وتحفظ حقوقه وتنّظم واجباته وتسهر على إستقراراه وتستوعب طاقاته وأحلامه، من هنا جاءت الدعوة في دول الخليج إلى الخدمة العسكرية التي هي جوهر العلاقة التبادلية بين الدولة والمواطن، وعلى أساس عقد إجتماعي واضح، والتزام أطرافه بأدق الحقوق والواجبات، وهذا ما أهملته الدولة العربية على مدى عقود طويلة، مما أدى إلى فشلها وتفكيك مجتمعاتها إلى مذاهب وقبائل وأعراق أدّت إلى إنهيارها في العديد من الأقطار، وتكاد تقضي على ما تبقى إن لم يستدرك الحكام ويتصالحون مع شعوبهم قبل فوات الأوان.
يسترسل الأصدقاء المغاربة في الحديث عن مراحل صناعة الإستقرار في المغرب، والتي بدأت قبل عشرين عاماً مع مبادرة الملك الحسن الثاني في العام 1992 بالدعوة إلى الشراكة من خلال تعديلات دستورية في العامين 92 و96، والتي أسّست لحسن النوايا التي حقّقت الشراكة في العام 1998 بتولّي الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي رئاسة الحكومة الأخيرة للملك الحسن الثاني واستمرّت مع بدء ولاية الملك الشاب محمد السادس، والذي أطلق أهمّ مبادرة سياسية عربية عبر ما عُرف «بالانصاف والمصالحة»، والتي كانت الغاية منها احالة كلّ الملفات السياسية الى القضاء، واعتبرت هذه الخطوة بمثابة أكبر عملية بناء ثقة بين الحاكم والمحكوم، اي بين الدولة والمجتمع، والتي توّجها الملك مع الربيع العربي بدستور جديد أعطى فيه التشريع للبرلمان وكذلك تكليف الحكومة وإقالتها، وبذلك تكون المغرب خلال عشرين عاماً انتقلت من النوايا الطيّبة الى الشراكة المتحققة الى الثقة الكاملة، على طريق المجتمع القويّ والدولة الحديثة.
سيتابع اللبنانيّون ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة المونديال العراقي والسوري والليبي، بعدما حُرموا من متابعة المونديال البرازيلي، وسيتذكّرون دائماً الواقع اللبناني المرير والعاجز عن انتخاب رئيس واقرار السلسلة وتأمين الاستقرار، وسيدركون جيّداً بأنّ تفكّكهم المجتمعي إلى طوائف ومذاهب أدّى الى تمزيق الهوية الوطنية، مما أنتج مجتمعاً فاشلاً، ودولة فاشلة.