إسطنبول –
هادئة ساحة «تقسيم» نسبيّاً هذه الأيام، ومحصَّنة برموش الأجهزة الأمنيّة، مع إعادة ترتيب في سلّم الأولويات، أو الأصحّ، في سلّم الإهتمامات. بدأت معركة الرئاسة لكن على رصانة تفرضها هيبة القانون.
ترتفع صور رجب طيب أردوغان أمام بعض المقار الحزبيّة، مع إعلام رسمي مسؤول يوزِّع الإهتمامات مناصفة، على رغم أنّ الصورة لم تكتمل ومواصفاتها بعد، أقلّه على صعيد المعارضة التي تحاول توحيد صفوفها وراءَ مرشّح واحد، على رغم الصعوبات.
تساؤلات كثيرة في أوساط النخب: لماذا يتخلّى أردوغان عن موقع النفوذ في رئاسة مجلس الوزراء، ليتولّى منصباً فخريّاً في رئاسة الجمهوريّة؟ الأجوبة لم تتوافر، لكن هناك مقاربات:
الأولى: يريد أن يتصالح مع الجيش. لقد حصلت «مواجهات حول الصلاحيات» وإنتصر القانون والدستور، واستقام الأداء، لكن بقيت العلاقات باردة، وهذه تشكل ثغرة، ولو هامشيّة، في التعاون والتناغم المطلوبَين لتحصين القرار وتطبيقه بحرارة وجدارة.
الثانية: يريد أن يتصالح مع القضاء. ما حصل في الأشهر الماضية من إعفاءات ومناقلات، أخذ طريقه في السياق العام، لكنّ أردوغان يعرف تماماً أنّ القضاء إنسان وقانون، والقانون يُعطي عدالة لكّنه لا يؤنسنها. إنما الروح المستمَدّة من طيب التعاون ما بين السطات وحدها تؤنسن العدالة.
الثالثة: مصالحة العلمانيّة. أثبَت حزب «العدالة والتنميّة» شعبيّته في الإنتخابات البلديّة الأخيرة، ولكنّ بعضها جاء من مواقع علمانيّة، فالعلمانيون متوجّسون، تركيا محافظة، ولكنّها لا يمكن أن تذهب نحو الأصوليّة والتطرّف. أدوارٌ كثيرة لعِبتها الحكومة تحت شعار دعم الثورة السوريّة، مدانة، يتحسَّس أردوغان ذلك، وهناك مَن يرفع صوته اليوم داخل البرلمان، وخارجه: «مبروك عليكم «داعش»، و»جبهة النصرة»، وأخواتهما؟!».
الرابعة: يريد أن يتصالح مع الفاعليات الحزبيّة والسياسيّة. هناك في وسط النخب مَن يقول إنّ الحكومة المقبلة لن تكون حِكراً على «العدالة والتنميّة»، فطموح أردوغان أن يؤلّف حكومة مصلحة وطنيّة تضمّ تنوّعاً، إن فاز بالرئاسة الأولى.
من المطار حتى الفندق، نظافة، وشوارع متقنة، ولفحات أوروبيّة واضحة بدأت تؤثر في المناخ التركي المحيِّر ما بين الإندماج مع الإتحاد، والتوغّل أكثر نحو الشرق حيث كثير من نكهة التاريخ، وأحلام السلطنة. في الأوساط الإعلاميّة حديث عن تيّارين:
الأوّل، لا يريد أن يُبالي بما يحدث على الحدود. همّه الوضع الإقتصادي المعيشي، ما قدّمه حزب «العدالة والتنمية» مقبول. حقَّقت تركيا في غضون الأعوام العشرة الأخيرة، قفزاتٍ نوعيّة في الإقتصاد، في الإنماء، في التقديمات الإجتماعيّة، لكنّ الأزمة الإقتصادية العالمية ترَكت بصماتها الواضحة.
والثاني، قلق وعينه على الجوار. السياسة التي إُّتبعت حيال الأزمة في سوريا لم تُحقَّق إنجازات بمقدار ما ولَّدت خيبات. الرئيس عبدالله غول أقرب من أردوغان الى عاطفة المواطن التركي ووجدانه. يصفون الأول بالهادئ، الحكيم، البعيد عن الإنفعال، والميال الى معالجة الأمور برويّة وعمق. فيما يجدون في الثاني فائضاً من الحماسة والإقدام، عفوي، يتأثر بسرعة، حتى إنّه يتَّخذ بعض المواقف، ليكتشف لاحقاً كم تعجّل عند إتخاذها.
«الداعشيّة» في العراق غيَّرت المشهد والمزاج، الحدود مشتركة، والخطر يدق الأبواب. نظريّة تمدّد الأزمة من سوريا لم تعد شعاراً، وليس العراق وحده الحلقة الأضعف. في تركيا هناك مَن بدأ يتحسَّس رأسه، حتّى إنّ «الطموحات الإستقلالية» في الإقليم الكردي، لا يُنظر إليها بإرتياح «هناك فائض من الخيارات الطموحة قد تقود المنطقة الى حروب عبثية لا تَنتهي حتى ولو رسمت حدود الأقاليم، والكانتونات المذهبيّة»، وهذا ما دفَع بأنقرة الى تكثيف إجتماعاتها التشاورية مع الحلف الأطلسي، لدرس الإحتمالات والبدائل».
مستجدّات الساحة العراقيّة، والدور الإيراني الطافح، فتحا نقاشاً واسعاً في تركيا، وشكّلا وقوداً إضافياً لحملة إنتخابيّة ساخنة تستغلّها المعارضة «المبعثرة»، وساحة «تقسيم» أمام تحدّيات جديدة تحت مظلّة الإنتخابات حول دور تركيا في المحيط، ومستقبلها.
ماذا عن لبنان؟
ليس مدرجاً في سلّم الأولويات، لكنّ في الكواليس مقاربتين: «نحن مقبلون على إنتخابات رئاسيّة، وأنتم على تأجيل بعد تأجيل. وبوجود مليون ونصف مليون نازح سوري، هل بقي مِن هواء في لبنان ليتنفّس اللبنانيّون؟