Site icon IMLebanon

من قصر بعبدا الى بكركي المعركة واحدة

 

عندما جرى توقيف واعتقال المطران هيلاريون كبوجي في منتصف سبعينيات القرن الماضي وكانت الحرب الأهلية عندنا على أشدها، تبين آنذاك ان الجيش الاسرائيلي قد عثر على أسلحة ينقلها المطران الجليل في سيارته الرعوية الى المقاومة الفلسطينية المسلحة في الاراضي المحتلة. وكان ما كان من تدخل الفاتيكان للافراج عنه واستدعائه الى روما من دون أن تنزع صفته الاكليركية. كان من الجلي ان الأسقف الوطني كان قد استخدم صفته وصلاحياته الاكليركية كمطران لحيفا والجليل والتي تشمل قرى لبنانية للتنقل بين لبنان والأراضي المحتلة لرعاية شؤون طائفته الكاثوليكية من دون الخضوع للتفتيش عند الحدود، نظراً للحصانة الروحية التي كان يتمتع بها. وبديهي أن تقسيم الأبرشيات المسيحية يعود لأزمنة غابرة تسبق بكثير زمن سايكس بيكو ونشوء دول عربية كسوريا ولبنان (الكبير) والأردن وفلسطين الخ… وبالتالي نشوء دولة اسرائيل (1948).

انطلاقاً من هذا المبدأ قد فاتت الأوركسترا المعبأة بالنوايا الدفينة والطروحات القسرية التي تديرها قوى الأمر الواقع والتي يرأسها حزب الله والذي بفضل مرحلة الوصاية السورية وما تلاها قد ألغى عملياً المقاومة الوطنية لتصبح حكراً عليه، ان بطريركية انطاكيا وسائر المشرق للطائفة المارونية تضم في عداد رعايا موارنة فلسطين أي الأرض المحتلة وان للمسيحيين حقوقاً تاريخية في القدس معترف بها دولياً، وان لسيادة البطريرك الراعي الحق كل الحق أن يتفقد شؤون رعاياه على طول امتداد «سائر المشرق» بما في ذلك فلسطين حتى ولو كانت محتلة، فلا يحق والحالة هذه لأحد أن يملي على البطريرك خارطة طريق سياسية باتت معروفة الأغراض والأهداف ومصالح أية أنظمة تقوم بخدمتها، وبالتحديد النظام الايراني وطموحاته الاقليمية التي تشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن الخ. انها قصة الاندفاع الفارسي نحو المتوسط، بعد أن تعثرت تدخلاته في آسيا الوسطى عندما اصطدمت بالنفوذ الروسي هناك، وروسيا بما تملك من خبرات وعلماء وتكنولوجيا نووية ومصدر رئيسي للسلاح المتطور حاجة ماسة لطهران، كما هي أيضاً لنظام بشار الأسد الذاهب في الحرب السورية الى الرمق الأخير.

بل أبعد من ذلك أيضاً عندما تبين للشعوب العربية، وقد أثبتت ذلك الوقائع الدامغة والاعترافات الموثقة ان الطروحات والشعارات النارية والزعيق المتفجر والتهديدات الايرانية وبالأخص مع محمود أحمدي نجاد تارة «بالشيطان الأعظم» وطوراً بمحو اسرائيل عن الخارطة كانت تخفي وراء كواليسها مفاوضات ايرانية أميركية سرية بل أوروبية أيضاً مهدت للاتفاق النووي بين طهران والغرب (5+1). ولم تخنّا الذاكرة بعد لننسى تلك الصفقة التي أطلقت سراح الرهائن الأميركيين والتي ترافقت مع تعهد اسرائيلي بتزويد ايران على امتداد أيام متواصلة بقطع الغبار الضرورية للفانتوم الايرانية الأميركية الصنع أمام سمع وبصر الدنيا كلها، ما بات يعرف بإيران غيت (Iran Gate) خلال ولاية الرئيس جيمي كارتر.

إن مصير مسيحيي فلسطين الذين قارب عددهم في الأراضي المحتلة على الاضمحلال والنضوب بعد انحدار عددهم من نسبة 17% قبل حرب 1948 وهزيمة الأنظمة العربية الى 3% فقط الآن يطرح للنقاش الصريح الجلي ليس مستقبل المسيحيين الفلسطينيين فحسب بل أيضاً جميع المسيحيين المشرقيين بما فيهم اللبنانيون. أين أصبح المسيحيون العراقيون الآن وقد لاذوا بالفرار إما الى كردستان في الشمال أو الى المهاجر؟ ما مصير الأرمن السوريون وسواهم من المسيحيين بخاصة في حلب وحمص وغيرها وقد دمرت بيوتهم وممتلكاتهم وأزهقت أرواحهم تحت وابل الحديد والنار والبراميل المتفجرة التي لا تتوقف؟ لماذا يتناقص باستمرار عدد المسيحيين اللبنانيين والذين لولا اتفاق الطائف (1990) وعرّابه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لما استطاعوا الاحتفاظ بموقع رئاسة الجمهورية الماروني ولا بالمناصفة في البرلمان. بل أسوأ من ذلك عندما شهدنا تلك الحملات المبرمجة الموقعة المدروسة على الرئيس الصالح المناقبي ميشال سليمان لأنه دعا لقيام بل لقيامة الدولة وحصر الحرب والسلم بالدولة وحدها وحصر السلاح بيد الجيش الوطني، والذي دعا في بيان بعبدا بعدم زج لبنان وأهله في صراعات المنطقة. كان مؤسفاً ومهيناً ومذلاً حقاً، أن تطلق عليه الصواريخ «الذكية» على ثكنة اليرزة لأنه دعا لكل ذلك. بل جرى تعطيل موقع الرئاسة الأولى وتهريب متماد للنصاب القانوني الدستوري من أجل فرض رئيس ايراني الهوى ممتثل لإرادة طهران وطموحاتها بل أطماعها الفاغرة فاها التي ابتلعت العراق وسوّت سوريا ركاماً في الحضيض وتسعى الآن لتعطيل ما تبقى لنا من اقتصاد وأمن ومؤسسات في الوطن الصغير.

إذا كان التوافق الصهيوني مع الأطماع الأسدية من خلال الحرب الأهلية العبثية (1975 1990) سواء باشعال الحرب بين اللبنانيين (1975) أو باقتطاع الشريط الحدودي (حرب 1978) قد أدى الى انجرار لبنانيين جنوبيين من جميع الطوائف للتعاطي مع الأمر الواقع الاسرائيلي هناك عملاً وعيشاً وطبابة وخدمات، ثم آثروا في فوضى ما بعد الانسحاب الاسرائيلي المفاجئ عام 2000 اللجوء الى الجهة الأخرى من الحدود، فإن هؤلاء لم يفقدوا لبنانيتهم ولا حقوقهم الرعوية والروحية وأحوالهم الشخصية، وهم يستحقون أن تسوّى أوضاعهم وفق القوانين اللبنانية، ومعالجة القضاء اللبناني للحالات التي تستوجب ذلك. أما أن يجري كيل الاتهامات لسيّد بكركي لأنه قام بواجبه الأبوي والروحي حيال أبنائه في فلسطين فتلك لعمري سابقة خطيرة أخرى كتلك التي قاموا بها يوم أمطروا اليرزة بالصواريخ، بل تدخل خطير في شؤون الموارنة والمسيحيين وفي شؤون بكركي وصلاحياتها، ومحاولة املاء جديدة عليها، تعطيلاً لدورها في سيادة لبنان واستقلاله الوطني. بل نجدها جزءاً لا يتجزأ من تفريغ هذا المشرق من مسيحييه، وهو لعمري الوجه الآخر من المشروع الصهيوني لتهويد فلسطين وطمس نهائي لهوية القدس المسيحية والاسلامية.

نحن أهل هذه الأرض وجزء مشرق ساطع من تاريخها، ونحن الذين ساهموا بل كانت لهم اليد الطولى في بعث نهضتها وعودة الروح الى تراثها العربي والانساني، فمن بعبدا الى بكركي والى ساحة البرلمان، طريق شاق طويل لن تقوى عليه قوى الجحيم.