Site icon IMLebanon

موعد متأخر مع بلقيس نزار قباني

 

لعل حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت في عام 1981 كان أول حادث إرهابي يستخدم سيارة مفخخة.. يقودها انتحاري ويستهدف مبنى يتمتع بحصانة ديبلوماسية.. ويذهب ضحيته عشرات الأبرياء.. كنت على موعد مع هذا الحدث الفاجع. ولكنني وصلت متأخراً.

قبل يومين من الانفجار، كان الشاعر الصديق المرحوم نزار قباني يزورني برفقة زوجته بلقيس في بيتي المجاور لبيته في شارع مار الياس في بيروت. تداولنا خلال الزيارة قضايا ثقافية متعددة. أبدت بلقيس اهتمامها ببعض الأفكار، وتمنّت عليّ أن أزورها في مكتبها بالسفارة العراقية لمواصلة البحث.

كانت بلقيس رحمها الله، تتبوأ منصباً ديبلوماسياً ثقافياً في السفارة العراقية. وكانت تقيم علاقات واسعة مع عدد من الأدباء والفنانين والكتّاب اللبنانيين.

في طريقي إلى السفارة، وصلت إلى منطقة «الايدن روك» أو ما يعرف الآن بـ«السمرلاند». وكنت على بُعد بضع مئات من الأمتار من مبنى السفارة عندما دوى فجأة انفجار كبير.. اهتزت الأرض من تحت سيارتي وانحرفت بي الى الرصيف قبل أن تتوقف فوق جزء منه.

ترجلت من السيارة مذعوراً لأرى سحابة من الدخان الأسود ترتفع من الشارع الذي يقع فيه مبنى السفارة العراقية. لم أعرف ان المبنى ذاته كان مستهدفاً، بل لم أفكر بأن الانفجار هو نتيجة عمل إرهابي، ذلك أنه في ذلك الوقت لم يكن الإرهاب قد مارس بعد مثل هذه الوسائل الإجرامية. فقد تعرفنا خلال الحرب الداخلية على أعمال القنص.. وعلى عمليات القصف.. ولكننا لم نتعرف على «العمليات الانتحارية».. كان الانفجار البداية الأولى.. وكانت بلقيس الضحية الاولى.

في الأسبوع التالي لوقوع الجريمة التقيت في منزل نزار قباني الموسيقار المرحوم وليد غلمية الذي جاء معزياً. عندما رآني بدت على وجهه علامات الدهشة والاستغراب.. وكأنه لا يصدق ما يراه.. حتى انه تلعثم في الحديث إليّ..

اعتقدت ان ذلك يعود إلى شدة تأثره بوفاة بلقيس. ولكن ما ان هدأت أعصابه وأعصابي حتى بادرني بالقول: الحمدلله على السلامة.. لقد اعتقدت انه ذهبت ضحية مع بلقيس. وسألته: كيف عرفت بموعدي معها؟ أجاب: «هي أخبرتني بذلك. لقد كنت أزورها في مكتبها قبل وقت قصير من الانفجار.. وبعد انتهاء اجتماعنا هممت بالمغادرة، فقالت لي انك قادم بعد قليل.. وتمنت عليّ البقاء لمواصلة الحديث معاً.. فاعتذرت إليها لارتباطي بموعد سابق.. وغادرت مبنى السفارة.. ولكن ما ان وصلت الى كورنيش المزرعة حتى سمعت دوي انفجار كبير.. عرفت فيما بعد انه استهدف مبنى السفارة. كنت أعتقد كما أبلغتني بلقيس انك قد وصلت الى مكتبها.. وانك كنت ضحية معها.. حتى رأيتك الآن.. فالحمدلله على السلامة».

حتى نزار قباني ـ رحمه الله ـ كان يعتقد انني ذهبت ضحية الانفجار مع زوجته. ذلك ان موعد زيارتي لها في مكتبها تحدد ليلة زيارتهما لي ولزوجتي في البيت. بقي نزار قباني تحت تأثير مخدر «الفاليوم» الذي كان يتناوله بنهم لمساعدته على تحمّل الصدمة.. حتى انه قضى الأسبوع الأول من الفاجعة منفرداً بحزنه ومستسلمًا لقدره.. لا يستقبل سوى القليل من المعزين الذين تدفقوا الى منزله من كل أوْب وصوب.. وحتى أثناء استقبالهم لم يكن على وعي كامل بما يقولون. ومع انني كنت أتردد يومياً الى منزله أيام التعزية صديقًا وجارًا، إلا انه لم يعرف انني ما زلت حياً إلا بعد أيام عدة..

لا اذكر عدد ضحايا جريمة تفجير السفارة. ولكنني أذكر ان موظفًا واحدًا ربما كان حارسًا نجا من الانفجار، إذ عُثر عليه بعد أكثر من أسبوع تحت الأنقاض. يومئذ قال إنه عاش على مياه كانت تتدفق من قسطل مكسور ومن لوح شوكولا كان معه.

أما بلقيس.. أجمل قصائد نزار قباني، فقد تحولت أثرًا بعد عين.. رحمها الله.