بعد يومين فقط نتركُ الملْءَ إلى فراغ، وينتهي العهدُ الثالث من عمر الجمهورية الثانية، بريئاً مما اعترى أخوَيْهِ من تمديد. هي ستٌّ من السّنوات أُكملَتْ عدداً، وامتلأت على كلِّ صعيد بأحداثٍ جسام، تركَت على الجسدِ اللبنانيِّ، المنهَكِ أصلاً؛ ندوباً ما كان له أن يبرأ منها أو يتحمَّلَ عوارضَها، لولا ما تحلّى به من حكمةٍ وشجاعةٍ وديعةٍ، الجالسُ على سُدَّةِ هذه السّنوات فخامةُ الرّئيس العِماد ميشال سليمان.
أقول: «الشَّجاعة الوديعة». فإنها أشبهُ بالأوكسجين الّذي يدخلُ عفواً وقسراً إلى صدرِ كلِّ حيّ، من غير أن يُرى أو يُشْعَرَ به؛ فيتوزَّعُ في أنحاءِ الجسد ويؤمِّنُ انتظام وظائف الأنسجة والخلايا والأعضاء. هكذا تحمَّل صاحبُ الفخامة مسؤولياته الدستورية طوالَ ولايته، عاملاً فيها ليلَ نهار، على ضخِّ الهواء في المؤسسات الوطنية، تأميناً لانتظام الحياة العامة من أجل سلامةِ الوطن.
ولأنَّ القلمَ أقصرُ من قامة المقام، سأكتفي بالقول إننا لن نجد إجماعاً على إنصافه إلا بعد أن يعمَّ الجمعَ شدةُ الحاجة إلى رئيس. ذلك أن بعضَنا لا يدري، أو يدري وينكر أنَّ العبث بالمواعيد الدستورية يوازي العبث بقوانين الطبيعة؛ فِعْلَ من يلغّم الأرض تحت رجليه متوهماً أنه سيفجِّرُ الآخرين.
تجربتي القصيرة معه ستمتد في الذاكرة حتى تفقد صلاحيتَها، ومودتي له باقية في النفس كالعطر المقيم. لقد أشعرني خلال هذه المدة اليسيرة بثقة عالية وأحاطني برعاية غالية يحفظها أهل العرفان.
بضع كلمات لا تختزل تقديري له، ولكن حسبُه أنه في ثلاثة شهور رعى ما لم ينجز قبلُ في سنوات. لقد كانت إرادته وإيمانه بالوطن سببين كافيين لكي تسير الحكومة التي يرئسها شبيه سجاياه دولة الرئيس تمام سلام في المجرى السلس النابع من منهلٍ خيِّرٍ كريم.
يسمع اللبنانيون دويَّ الفراغ الهاجمِ على القصر ويسألون: من لنا بمن يحوِّلُ عنّا مهبَّ هذه الريح؟ والمرارة من شغور الكرسي الأول ليست مسيحية فقط، بل تشمل الجميع، لأنَّ رئاسة الجمهورية ولئن كانت حقًّا ميثاقيًّا للمسيحيين فهي ضرورة وطنية لكل لبناني، لا سيما المسلمين الذين وجدوا في هذا البلد حديقةً يتنزه فيها فكر الربيع العربي المقموع، ولأنَّ مؤسساته التي هزَّت تقلباتُ الزمن أعمدتَها لا تزال هي وحدها الصالحة للانتقال الهادئ للسلطة. وعليه فكل من يفكِّرُ بتعطيل البرلمان أو الحكومة يكون كالرجل الذي تعسَّرت ولادة زوجته وتخطت التسعة الأشهر المسطورة في كتاب الطبيعة، فراح يطلق النار على القابلة القانونية والطبيب النسائي القادرين وحدهما على إنقاذ الأم والجنين معاً.