لا نملك معلومات كافية عن مسار المفاوضات متشعبة الأطراف لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، برغم أن التحرك الأميركي المتأخر بدأ لحظة استنفاد العدوان أهدافه العسكرية وتحوله إلى عملية إبادة جماعية، والعد العكسي في الخسائر التي تتجنب إسرائيل دفعها. فالتصلب الإسرائيلي تجاه المطلب الأساسي للشعب الفلسطيني وهو رفع الحصار عن غزة لا يمكن فهمه إلا في ضوء تلك الجملة المعترضة التي أوردها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في مؤتمره الصحافي عن عرض «تحت الطاولة» مقابل نزع السلاح من غزة.
مشكلة إسرائيل مع غزة أنها ما زالت تمثل الاعتراض المسلح الجدي على مشروع نتنياهو للحل القائم على فكرة التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم كتلة بشرية لها أن تدير شؤونها الذاتية بحدود الجغرافيا التي تلائم إسرائيل شرط ألا يشكلوا دولة ذات سيادة. «الدولة المنزوعة السلاح» والدولة المكونة من مجموعة أقاليم وإدارات ذاتية والخاضعة للأمن الإسرائيلي هي صيغة نتنياهو كما شرحها في كتاب له بوضوح. أحد الأسباب الرئيسية للعدوان، وقد كانت معلنة، هو الرد على حكومة الوحدة الوطنية بين غزة ورام الله، ولو اتخذت صفة «حكومة التكنوقراط» تخفيفاً لدلالتها الوطنية المهمة في وجه إسرائيل. إنها حكومة تمثل خطوة على طريق إعادة صياغة المشروع السياسي الفلسطيني ضد سياسة المفاوضات العبثية، وضد سياسة اللعب على التناقضات الفلسطينية وامتداداتها الإقليمية. لذلك لم يكن العدوان على غزة لأهداف تكتيكية محدودة بل هو «الوجبة» الإسرائيلية كلما تهيأت الظروف لاستنزاف غزة عسكرياً ومدنياً والحؤول دون تراكمات تسمح لها أن تشكل تحدياً جدياً للمشروع الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً. حين انتفض محمود عباس رئيس السلطة بعد مفاوضاته الإقليمية وفتح الباب على مراجعة محتملة لموقف السلطة من التفاوض استشعر الأميركيون أن إدارتهم للعملية السياسية قد تخرج عن السيطرة وأنهم قد يواجهون ما يشبه انتفاضة جديدة في كل الأوساط الفلسطينية تغيّر المعطيات الراهنة.
في مكان ما الجميع في مأزق بالنسبة لأهدافه وحساباته. فما يسمى «أزمة الشرق الأوسط» منذ عقود طويلة تجاوزاً على الاعتراف بجوهر النزاع الذي تشكله إسرائيل وحقوق الشعب الفلسطيني صار فعلاً «نزاعاً شرق أوسطياً» بتداخل العوامل الإقليمية ونجاح النظرة الأميركية للمنطقة على أنها وحدة «جيوسياسية»، لأميركا والغرب فيها مصالح اقتصادية وأمنية مترابطة وموحدة وفي طليعتها النفط والغاز وحصان طروادة «إسرائيل».
وإذا كان من جديد على صعيد المسألة الفلسطينية فهو أنها دخلت اليوم بصورة أكثر ترابطاً مع ما هو متصور أو مأمول من دول الإقليم الفاعلة والعالم لكيفية صياغة النظام الإقليمي بعد استكمال تفكيك كل معطياته السابقة. هذا ما يفسر النكسة الكبيرة التي تعرض لها العراق على صعيد العملية الجارية منذ عشر سنوات لقيام دولة اتحادية تحافظ على وحدة كيانه. وهذا ما يفسر التلاعب غير المسبوق بكل مكونات دول كاليمن وليبيا وما يجري في الشمال الأفريقي تمهيداً لتفعيل كل النزاعات العرقية والقبلية والجهوية ويفسر كذلك استدامة الأزمة السورية والتهديدات الأمنية الجدية لمصر على حدودها مع إسرائيل ومع ليبيا والسودان. فإذا لم تنجح مصر الآن في حماية حقوق الشعب الفلسطيني من خلال دورها لحل مشكلة غزة، فهي لن تضمن أمنها لأنها لم تضمن دورها العربي في إعادة تكوين تيار المواجهة مع سياسات التجزئة والتقسيم والتقاسم من خلال الحروب الأهلية لصالح القوى النافذة إقليمياً ودولياً. فإذا لم تتكوّن الآن لدى مصر ولدى المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي رؤية عربية واحدة فاعلة مدركة لحجم المخاطر الناشئة عن تتابع المسار التكتيكي للمنطقة فإن المسألة لن تعود «أمن حدود» لأحد من الدول بل «مسألة وجود» بتنا أكثر استقراء له من خلال هذه الفوضى العارمة. فمن يجمع شتات العرب الآن، بل شتات الشعوب في شكل من أشكال الكيانات السياسية المستقرة إن لم تتوافر لهم دائرة محورية فاعلة لمواجهة خطر الانحلال السياسي والتوحش المدني؟