«بتُّ أشعر بالخوف والريبة من البقاء في لبنان أو في أيّ دولة عربية أخرى، حيث إنّ هناك خطراً حقيقياً وهواجسَ عديدة تلاحقنا كلّ يوم كمسيحيين». الكلام لـِ بيار خوري، شابّ لبناني مسيحي قرّر الهجرة إلى الخارج بعدما أيقنَ أنّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في لبنان وفي دوَل المشرق العربي لم تعُد آمنة للعيش والبقاء فيها.
يشعر الشاب الذي أنهى دراسته الجامعية قبل سنوات، بخطر وجودي كبير في ظلّ ما يتعرّض له المسيحيون في سوريا وفي عدد من البلدان العربية، وهو حال عدد كبير من المسيحيين في الشرق.
وإلى الأردن، حيث تشعر سيرين الدبابنة بالخطر عينه، بالرغم من أنّ الاردن يُعتبر بلداً آمناً للمسيحيين، نتيجة استقرار الوضع الامني، إلّا أنّ الشابة التي تعمل في مؤسسة مصرفية، تقول إنّها تشعر بتمييز من قِبل بعض الجماعات غير المسيحية، «ففي كثير من الاحيان كان بعض المتشددين في عملي يوجّهون انتقادات مبطّنة لانتمائي الديني وبأنّني أقلّية لا صوتَ لها في الاردن، ومؤخَّراً بتُّ أخفي كلّ المظاهر التي تشير الى طائفتي، نتيجة ما أسمعه من كلام ورفض من قِبل البعض، خصوصاً بعد تصاعد الحركات المتطرّفة في كل مكان، حتى إنّني أخفيتُ الصليب الذي يرمز الى ديانتي خوفاً من زيادة الانتقادات والكلام النابي من قِبل البعض».
مسيحيّو الشرق خائفون على مستقبلهم. أعدادهم تتضاءَل يوماً بعد يوم بفعل عدد من العوامل والاسباب، بعد ان كانوا يشكّلون 25% من سكّان المنطقة العربية، أمّا اليوم فقد باتوا يشكّلون 6% فقط من إجمالي عدد السكان، في منطقة تعيش حروباً وصراعات لا تنتهي.
أجراس تدقّ بخجل
الكنائس المسيحية بمختلف طوائفها ما زالت صامدة بوجه كل الاحداث العاصفة في المنطقة، الاجراس تدقّ بخجل، والمؤمنون يحاولون جاهدين البقاء في «أرض الشرق» حيث وُلد السيّد المسيح وصُلب، إلّا أنّ عدداً كبيراً منهم يجد نفسه مضطراً للمغادرة لعدّة أسباب.
في لبنان كما الاردن، الوضع المسيحي يبدو افضل من غيره في الشرق. المسيحيون في لبنان يشاركون بقوّة في الحياة السياسية، ورئيس البلاد من الطائفة المارونية على الرغم من الفراغ المستمر في سدّة الرئاسة. وفي الاردن، يوفّر النظام الملكي الأمن والاستقرار لهم.
أمّا في مصر، فإنّ ارتباط الأقباط بأرضهم مكّنهم من البقاء فيها بالرغم من حالات العنف والقتل والإقصاء السياسي الذي يتعرّضون له. وفي فلسطين أعدادُ هذه الطائفة تتناقص بشكل مخيف، خصوصاً في بيت لحم ومناطق النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وزيارة البابا فرنسيس الاخيرة الى الاراضي المقدسة كانت لحَثّ المسيحيين على البقاء في أراضيهم.
الوضع مأساويّ في العراق، حيث هاجرَ أكثر من 69% من المسيحيين بفعل الإرهاب وأعمال العنف الدائرة في كلّ أنحاء البلاد منذ العام 2003، خصوصاً مع استمرار الحركات الارهابية بتخويف الأقلّيات، وعمليات حرق الكنائس والاعتداء على المواطنين، وآخرها ما تشهده البلاد من هجوم لتنظيم داعش على مناطق عدة في العراق. أمّا الصورة في سوريا فتبدو اكثر قتامةً وشحوباً مع تصاعد اعمال العنف، وتبادل الاتهامات بين النظام والمعارضة.
الخطر المصيري
«الخطر مصيري» يَصِفُه إيليا طعمة، أسقُف وادي النصارى للروم الارثوذكس في سوريا، فكنائس الشرق خائفة، تبحث عن حلّ لهذا التضاؤل الكبير لأعداد المسيحيين في المنطقة.
المسيحيون أقلّية تعيش في منطقة مليئة بالحروب والنزاعات، وهم يحاولون اليوم لعب دور إيجابي في صنع السلام من خلال الحوار مع الجماعات الإسلامية المعتدلة، لمحاربة التطرّف الذي بات يشكّل خطراً حقيقياً على الجميع.
ولا شكّ في انّ اختطاف المطرانين يوحنا ابراهيم وبولس اليازجي قبل اكثر من عام، يشكّل دليلاً كبيراً على الخطر الذي يهدّد المسيحيين ومجتمعاتهم ووجودهم، وهو شعور جماعيّ يتعلق بالقلق السائد من إمكانية تعرّضهم للاضطهاد والقتل.
أسباب كثيرة أوصلت المسيحيين الى هذا المصير، من الفقر والعوز، والوضع الامني وعدم الاستقرار، وصولاً إلى انتهاك حقوق الانسان، وإلى طبيعة الانظمة العربية، وطبيعة القوانين والدساتير، ما أدّى إلى تراجع عددهم الديمغرافي، وإلى ازدياد الهجرة الى الخارج، وإلى تراجعهم عن المشاركة في الحياة السياسية في دول المشرق.
المسيحي في العالم العربي يشعر بالتهميش، وبأنّه لا يتساوى مع المواطن المسلم الآخر لعدّة أسباب. يقول جان سلمانيان، ممثل كاثوليكية الأرمن الارثوذكس في مجلس كنائس الشرق الاوسط، الذي يرى انّ الهجرة تشمل المسيحيين والمسلمين، إلّا انّ استهداف المسيحيين يبدو واضحاً وجليّاً، وكان لخطف المطرانين رسالة سياسية تهدف الى ترويع وتخويف المسيحيين، من أجل إشعارهم بأنّهم مهدّدون في مناطقهم وأراضيهم وأنّ تركَ بلدانهم هو السبيل الوحيد للخلاص.
الخوف من الجحيم السوري
هذا الخوف تضاعفَ في السنوات القليلة الماضية مع بدء الحراك الشعبي في سوريا، الذي تحوّل إلى حرب أهلية طاحنة، ذهب ضحيتها حتى الآن مئات آلاف القتلى وأكثر من مليون جريح، ونحو مليوني ونصف مليون نازح سوريّ.
وبين الصراع الدامي بين النظام السوري والمعارضة المسلحة، برزَت بعض الجماعات المتشدّدة كجبهة النصرة وتنظيم القاعدة وسط دعوات بإقامة دولة إسلامية في بلاد الشام، ما ضاعفَ المخاطر والمخاوف لدى المسيحيين والأقلّيات، من إمكانية تعرّضهم مرّة جديدة للاضطهاد والتهجير المنظّم.
«أعمال العنف التي تصيب المسيحيين في سوريا غير مبرّرة على الإطلاق، فهذه الطائفة الأساسية التي تعيش في سوريا منذ آلاف السنوات تتعرّض اليوم للاضطهاد، ويعمل البعض على تهجير سكّانها إلى خارج سوريا، وكأنّ هناك خطةً لإخراج المسيحيين من المنطقة العربية كلّها».
الكلام للأم أغنيس مريم الصليب، رئيسة دير مار يعقوب ورئيسة الهيئة الدولية لدعم المصالحة في سوريا، والتي أكّدت أنّ «هناك دولاً كبرى تدعم بعض المسلحين من المعارضة السورية، وأنّ هذا الأمر سيزيد من أعمال القتل والعنف ضدّ المسيحيين من معلولا إلى حلب واللاذقية وصيدنايا إلى كلّ دول المشرق العربي».
إتّهام الأمّ أغنيس للمعارضة السورية بأنّها السبب الوحيد في تأجيج الوضع في سوريا وبمسؤوليتها عن تعرّض المسيحيين للعنف، ترفضه ماريا الياس من مدينة اللاذقية السورية التي يتواجد فيها آلاف المسيحيين.
ماريا التي تعمل كمُدرِّسة في إحدى المدارس المسيحية، والتي تبلغ من العمر 33 عاماً، وهي ناشطة لاهوتية في كنيسة الروم الارثوذكس بين لبنان وسوريا، تشير الى أنّ النظام السوري برئاسة بشّار الأسد وقبله حافظ الأسد، عملَ على تخويف الأقلّيات المسيحية لعقود، من خلال تقديم نفسه على أنّه حامٍ لهم، وأنّ أيّ بديل سيودي بهم إلى الاضطهاد والعنف والتهجير.
وتضيف: «لم يعُد هناك من مكان آمن في سوريا. الفوضى تعمّ كلّ مكان. الخطر يهدّد الجميع بما فيهم المسيحيين، باعتبارهم الورقة الأضعف في سوريا. هذه الصعوبات والتهديدات الأمنية التي يواجهها الجميع، جعلت المسيحيين يشعرون بالإحباط، وعددٌ كبير منهم اقتنع بضرورة وحتمية الهجرة بسبب عدم قدرة النظام على التعامل مع الأزمة بصورتها الصحيحة.
ومنذ اندلاع الثورة، وبحسب ارقام المطرانيات، هاجرَ حوالي ثلث المسيحيين من سوريا، وانخفض معدل المسيحيين المتردّدين إلى الكنائس إلى أقلّ من 50% مقارنةً بما كان عليه قبل أحداث 2011.
فاروق طيبي – 29 عاماً، أرثوذكسي سوريّ، من سكّان اللاذقية، ناشط في الجمعيات الشبابية المسيحية، يعتبر أنّ الوضع في سوريا تغيّر خلال السنوات الماضية، وأنّ الخوف المسيحي يزداد، إلّا أنّ هذا الخوف ليس من المتطرفين المسلمين فقط، كما يروق للبعض ان يصوّر الأمر، بل ممّا يقوم به النظام، إضافةً إلى هواجس اخرى تتعلق بمصيرهم ونمط حياتهم الذي أصبحَ مهدّداً بفعل الحرب والفوضى، ما يعكس الاستعداد الدائم الى الهجرة والسفر.
ويرى فاروق أنّ المسيحيين منقسمون بين معارضين وموالين للنظام السوري، وهذا الانغماس في الحرب أدّى الى تناقص أعدادهم بشكل يثير الدهشة، فالشباب يهاجر الى دول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا بكثرة. ويضيف: «في قدّاس الفصح باللاذقية لاحظت تناقص أعداد الناس المشاركين عمّا كانوا عليه في العيد الماضي».
النفق المظلم
قصصُ المسيحيين ومعاناتهم لا تنتهي في كلّ مكان، وما يجري في سوريا سيزيد الامور تعقيداً في كل مكان ايضاً. واقعٌ صعب، ينعكس سلباً على هذه الأقلية التي تسكن الشرق، وعلى كلّ المسلمين والطوائف الأخرى على حدّ سواء.
فما يجري في سوريا، وغيرها هو نتيجة الحروب والتشدّد والاقتتال، ولا سبيل للخلاص إلّا بمواجهة هذا التطرّف بالاعتدال والحوار، وبإيجاد حلول سلمية للصراعات والنزاعات، وباحترام حرّية المعتقد في المنطقة، وإلّا فإنّ أعداد المسيحيين ستستمر بالتناقص، ومعها أيضاً أعداد المسلمين المعتدلين، ليصبح الشرق بئراً للمأساة التي لا تنضب، ولا تنتهي.
دربُ الجلجلة دربٌ صعبٌ ومؤلم، يختبره المسيحيّون اليوم، بانتظار الخلاص ممّا يعانونه من صعوبات ومخاوف وهواجس