الوضع الفلسطيني – الاسرائيلي لم يكن ينذر بانفجار عسكري خطير يمكن أن يؤجّج الوضع الإقليمي المشتعل منذ سنوات قليلة. فاتفاق وقف اطلاق النار كان سارياً منذ 2012، وكان مقدّراً له أن يستمر رغم فشل جهود أميركا مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. وهو فشل جعل العرب والعالم مقتنعين أن الصراع بين الفريقين سيبقى من دون حل في المستقبل المنظور. طبعاً انزعج الاسرائيليون كثيراً من “المصالحة” الأخيرة بين السلطة الفلسطينية وحركة “حماس”، بل من نجاحها المبدئي الذي تمثَّل في تأليف حكومة، وفي بداية تعاون وتنسيق لحل خلافاتهما ولمواجهة المستقبل. وهدّدوا وصعّدوا سياسياً، لكنّ أحداً لم يكن يتوقع الوصول إلى تصعيد عسكري، وخصوصاً في ظل اقتناع جهات دولية عدة بأن هدف نتنياهو من التشدّد ورد الفعل المبالغ فيه كان المحافظة على حكومته وعلى موقعه رئيساً لها.
اذا كان ذلك صحيحاً كله فلماذا حصل ما حصل من قصف متنوع ومدمِّر وقاتل لغزة الأسبوع الماضي؟
السبب المباشر لهذا الأمر معروف وهو اختطاف فلسطينيين ثلاثة مستوطنين اسرائيليين في الخليل وقتلهم. ثم مبادرة اسرائيليين الى خطف فلسطيني في القدس وقتله. والعملان أطلقا تصعيداً لا يزال مستمراً الى اليوم. علماً ان الأسباب المباشرة لم تكن يوماً السبب الفعلي لأي نزاع أو حرب، ومن هنا السؤال المطروح أعلاه. أما الأسباب غير المباشرة فموجودة في رأي المتابعين لأوضاع المنطقة بصراعاتها وحروبها المستجدّة، وبالصراع المستعصي على الحلول منذ عقود. لكنها متناقضة نظراً الى تناقض “الهوى السياسي”، اذا جاز التعبير، لأصحابها. فالفلسطينيون والعرب عموماً، رغم أن رد فعل دولهم وأنظمتهم على الاستهداف المستمر لغزة أقل وبكثير من حجمه وأسباب ذلك معروفة جيداً، يتّهمون نتنياهو بالعمل لفرط حكومة “السلطة – حماس”، ولإشعال اشتباك فلسطيني – فلسطيني، ولعزل “حماس” نهائياً، أو على الأقل لنزع أنيابها الصاروخية قبل أن يصبح ذلك مستحيلاً، مستفيداً للنجاح في ذلك من انشغال العرب عنه وعن دولته بمشكلاتهم وحروبهم الداخلية والاقليمية وبمواجهة الأخطار الخارجية وما الى ذلك. وهذا سبب تتبناه ايضاً الجمهورية الاسلامية الايرانية، ولا نتحدث هنا عن روسيا، عرّاب ما يسمى “جبهة الممانعة” العربية – الإسلامية، لأنها في الموضوع المطروح هذا لا تقل انحيازاً لاسرائيل عن الغرب وقائده الأميركي. أما الغرب إجمالاً وربما حلفاؤه العرب والمسلمون فيعتقدون، واستناداً الى معلومات جدّية لمتابعين أميركيين جدّيين، أن للتصعيد الأخير بين “فلسطين” واسرائيل اسباباً إيرانية. فالقيادة في طهران كانت (ولا تزال) تفاوض المجتمع الدولي (5+1) وزعيمته أميركا لحل الخلافات بينهما على الملف النووي لايران، واستطراداً على القضايا الاقليمية الشائكة التي تفرّقهما. لكن تفاوضها كان “على الحامي”، إذ استمرت في القتال غير المباشر في سوريا ولبنان واليمن والعراق. كانت تظن أن تردُّد الرئيس أوباما في سوريا وحاجته اليها، كما حاجتها اليه، لمحاربة “الارهاب السنّي” سيجعلها تحقق نتائج ممتازة في النهاية. إلاّ أن ما جرى في العراق (سيطرة “داعش” على قسم كبير من وسط العراق السنّي) فاجأها وأقلقها وأربكها، وجعلها تقتنع بأن ذلك ما كان ممكناً لولا تدخل أميركا مباشرة وبواسطة حلفائها العرب والمسلمين وفي مقدمهم السعودية. والهدف كان ممارسة التفاوض “على الحامي” مع إيران، وإعادة شيء من التوازن على الارض بينها وبين أعدائها العرب، وذلك بعد امتناعها عمداً عن إقامة توازن كهذا في سوريا.
هل يعني ذلك أن تطورات العراق ستقضي على امكان التفاهم الأميركي (الدولي) – الايراني على “النووي” أو على القضايا الأخرى؟
المتابعون أنفسهم يستبعدون، وبشيء من الجزم، ذلك رغم اقتناعهم بحاجته الى وقت.ذلك. فواشنطن لا تريد أن تتحول “داعش” “تنظيم قاعدة” آخر عصياً على الضبط، كما حصل بعد طرد “المجاهدين” المسلمين الاتحاد السوفياتي من افغانستان، ومهدِّداً المنطقة والعالم وخصوصاً في ظل ايمانه المطلق بـ”الارهاب” وسيلة وغاية. وإيران عندها الموقف نفسه وكذلك العالم. وربما يفتح ذلك الباب امام “ضبط” الأوضاع ولكن من دون إعطاء “شيك على بياض” لأحد.
أي من الأسباب غير المباشرة المفصّلة اقرب الى الصحة؟ لن اقدم سوى دعوة الى البحث في أبعد من الأسباب المباشرة.