لم يعُد الوقت يتَّسع للمماطلة، فالشرق يتَّجه إلى الهاوية في سرعة النار. ولأنّ المسيحيين فيه كبش الفداء، إسترَدَّ بطاركة أنطاكيا مبادرة «المسيحية المشرقية»، وأطلقوا «عظة جبل» أو نداءً أوّلاً من البلمند، وستَليه صرخاتٌ ومبادرات تُسابق الوقت الأنطاكي الصعب.
في الليلة الظلماء، يقف مسيحيّو المشرق أمام استحقاق حاسم: هل يُثبِتون أنّهم ليسوا «الهنود الحمر» الآيلون إلى الانقراض؟
في المقابل، يقف سنَّة الشرق وشيعتُه أمام استحقاق ليس أقلّ صعوبة: ما قيمة «شرقِهم» من دون اللقاح الحضاري المسيحي، وأيّ حياة لهم إذا تحوَّل الشرق أرضاً من الرماد يتنازعُها التيوقراطيون السُنّة والشيعة؟
فـ«الشرق الأوسط الجديد»، الموعود، يبدو أسوأ من الشرق الأوسط الحالي. فهذا «الجديد» يصنعه بنو «الشرق الأوسط القديم»: «بنو الخلافة» و«بنو الولاية» و»بنو إسرائيل». أمّا المسيحيون فيخشون أن يكونوا مجرّد مادة تشتعل ولا يبقى لها أثر بعد الاحتراق!
ماذا يفعل المسيحيّون المشرقيّون، فيما هم يشاهدون الكيانات القديمة تتلاشى لتنشأ كيانات لا مكان لهم فيها؟ فالأكراد يرتّبون أوضاعهم بتغطية إقليمية – دولية، والسُنّة والشيعة يتصارعون لكنّهم لا يخشون الإبادة أو الإنقراض. أمّا المسيحيّون الذين بمآثرهم الحضارية ارتقوا بالمجتمعات المشرقية عبر التاريخ، وأحدثوا الفارق بين مسلمي المشرق وسائر مسلمي العالم، فيتعرّضون اليوم لمخاطر الإمِّحاء. وهذه حقيقة يجدر الاعتراف بها وعدم المكابرة، والتعمية السيّئة النية أو الحسنة النية.
من العراق ومصر إلى سوريا وفلسطين، النَّزف المسيحي مستمر إلى حدود الإفراغ الكامل أحياناً. أمّا لبنان، الذي اعتبرَه أنطون سعادة «نطاق ضمان للفكر الحرّ»، فيتلاشى طابعُه مع ترنُّح دور مسيحيّيه واهتزاز المؤسسات الضامنة لهذا الدور، ولا سيّما رئاسة الجمهورية. ويبقى استنهاض الدور المسيحي القوي والمتفاعل في لبنان، أساسياً في الدفاع عن المسيحية المشرقية.
ويبدو مسيحيّو المشرق متروكين لمصيرهم: فالغرب الذي أوهَمهم بالحماية في الحملات الصليبية، قبل أجيال، يَبيعهم اليوم مقابل حفنةٍ من دولارات النفط. أمّا الشرق فينزلق إلى همجيّات لم تشهدها الجاهلية. ولا تجد إيران ولا السعودية ولا تركيا ولا سواها مصلحةً في خوض معركةٍ للدفاع عن الأقلّية المسيحية في الإقليم. وعلى العكس، بعضُها يمارس دوراً سلبياً.
أمّا إسرائيل المشجِّعة للتطرُّف والمهدِّدة حضورَ المسيحيين والمسلمين في فلسطين، فترى في مسيحيّي المشرق منافساً ونقيضاً حضاريّاً غير مرغوب فيه. ولذلك، مثلاً، لم يُهدِّد مسؤولوها باستخدام سلاح الجوّ دفاعاً عن المسيحيين، كما في الحال الكردية، ولو لرفعِ العتب.
من هنا، يبدو حيوياً ما تفعله الكنيسة، بشقّيها الكاثوليكي والأرثوذكسي. فقد رعى الفاتيكان، في العقدين الأخيرين، أعمالَ السينودس من أجل الشرق الأوسط ولبنان. وقبل أيام، جاء المجمع الأنطاكي، الذي ضمَّ بطاركة الشرق الأرثوذكس والكاثوليك، بدعوةٍ من بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنّا اليازجي، وفي ضيافته في البلمند. فحتى اليوم، كان ملفّ المسيحيّة المشرقية في أيدي مبادرات سياسية. والمؤتمرات التي عقدتها الجهات المعنية وُضِعت في خانة التسييس، ما عرَّضَها للتأويل والتشكيك المتبادل. والكنيسة هي اليوم في صدَد تولّي الملف مباشرةً. وعندما يحضر الأصيل يبطل دور الوكيل.
والصرخة – الأساس التي أطلقها اليازجي بإسم الكنائس الأنطاكية تتضمَّن أوّلاً دعوةً إلى مسيحيّي المشرق ليتَّحِدوا ويحافظوا على وجودهم. فالاتّحاد شرط لأيّ عمل منتِج. ولذلك، ستتحرَّك لجنة مشتركة لتدعيم التعاون بين الكنائس الأنطاكية، وستُخطِّط لعملٍ على المستوى الأنطاكي. والأرجح أنّ القمّة التالية ستكون في بكركي. وكان مؤتمر الوحدة الأنطاكي أقرَّ استفتاءَ العلمانيّين الأرثوذكس على امتداد الأبرشيات في المشرق والعالم.
وبعث البطاركة برسالةٍ إلى المدى الإقليمي ترفض موجات العنف والتطرّف والانغلاق، وتحرص على التعدُّد الديني والثقافي الذي ميَّز المنطقة عبر التاريخ. وفي مقابل التيوقراطية المتنامية إقليمياً، أصرَّ البطاركة على الديموقراطية اللبنانية كصمّام أمان، وعلى احترام المؤسسات والاستحقاقات.
فهل ستنجح الكنيسة، بالـ»لا سلاح» الذي تملكه، إلّا سلاح الكلمة ورسالة السلام، في مواجهة الدم والعنف والتطرُّف؟
المعركة ليست سهلة، لكنّ عناصر نجاحها ليست مفقودة للّذين يؤمنون بأرضٍ وقضية. واتحادُهم هو المعيار الأوّل، فـ»كلّ مملكة تنقسِم على نفسها تخرب».