Site icon IMLebanon

نصير القلم الحرّ.. حتى الرمق الأخير

 

نصير الأسعد اسم يكفي للتعريف عن صاحبه بقدر عجز الصفحات والكتب عن القيام بتلك المهمّة. بيك الصحافة النبيلة ونصير ثورة الأرز والقضايا العربية المحقّة وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتحرّر الشعب السوري، و»دينامو» عجلة الاستقلال والحرية. غاب الصحافي الوطني المخضرم والمقاوم اللبناني باكراً، لم يحتمل المحاولات المتكررة لإسقاط الدولة، هَرم قلبه ويده كانت لاتزال تمتشق القلم الحرّ حتى الرمق الأخير من سنواته الـ 61 فانضم الى رفاق له في النضال سبقوه اغتيالاً صباح الأحد 27 ايار 2012 إثر نوبة قلبية حادّة.

بدأ الصحافي نصير الأسعد حياته ناشطاً في صفوف الحركة الطالبية أواخر ستينيات القرن الماضي، حينما كان طالباً في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية وقيادياً في منظمة العمل الشيوعي ومتصدّراً صفوف الطلاب. ناضل من أجل تأسيس الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، وفاز بعضوية المكتب التنفيذي للاتحاد. في العام 1975 اتّخذ موقع نصرة الشعب والقضية الفلسطينية في منظمة العمل الشيوعي خلال الحرب الأهلية، واعترف لاحقاً بعبثية الحرب. في أواخر سنة 1976 ناهض دخول الجيش السوري إلى لبنان، وفي العام 1982 قاوم الاحتلال الاسرائيلي وغادر لبنان على متن الباخرة التي أقلت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، على أن يتوجه الى فرنسا.

حتى العام 1985 تنقل نصير الاسعد بين باريس وعواصم عربية وأوروبية، بصفته «مسؤول عمل منظمات الخارج» في منظمة العمل الشيوعي. بعدها عاد الى لبنان ليبدأ حياته المهنية كإعلامي في أسبوعية «بيروت المساء» التابعة للمنظمة، ثم كتب في العديد من الصحف والدوريات والمواقع الالكترونية.

بقي نصير الأسعد ناشطاً وقيادياً في منظمة العمل الشيوعي حتى منتصف التسعينيات حيث ساهم اعتباراً منذ العام 1995 في إصدار المنشورات الداخلية لتيار «المستقبل». في العام 1998 التحق بفريق العمل الذي أسس جريدة «المستقبل»، وعمل فيها مديراً للتحرير، ثم شغل منصب منسق الشؤون الثقافية في تيار «المستقبل» وعضو أول مكتب تنفيذي للتيار حتى وفاته.

كان نصير الأسعد أوّل المؤيّدين لبيان مجلس المطارنة الموارنة العام 2000 وكان جسر التواصل بين لقاء قرنة شهوان والرئيس الشهيد رفيق الحريري. في العام 2008 ساهم في تأسيس الأمانة العامة لقوى 14 آذار، وشارك في صياغة معظم أدبيات قوى 14 آذار من بيانات ومذكرات ووثائق سياسية، وفي العام 2009 انضمّ الى اجتماعات الأمانة العامة الدورية.

[نصير.. القضايا المحقّة

في كل تلك المواقع، حمل نصير الأسعد لواء الدفاع عن لبنان شعباً ودولة، وكان وجوده «الدينامو» الذي حرّك ثورة الأرز، واكبه في ذلك قلمه الراقي الذي شكّل رافعة ونقطة ارتكاز لمضاعفة ثقة الاستقلاليين في المواجهة بعد نيل لبنان استقلاله الثاني إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان على وقع التظاهرات.

لم يقف مرض نصير الأسعد حائلاً بينه وبين قلمه الذي حارب فيه تراجع وضعه الصحي، لم يتراجع عن قضيّته كأحد أركان ثورة الأرز. واصل حربه على النظام السوري حتى آخر مقالاته التي رأى فيها أن ما يُعدّه هذا النظام لطرابلس والشمال «أبعد وأخطر بكثير من الظاهر». عاش مرحلة دقيقة ووضعاً حرجاً بعدما أنهكه المرض قبل وفاته بأشهر، وكان أحبّته ورفاق دربه يصلّون له ويتمنون تحسّن صحته.

عُرف نصير الأسعد في الوسط الصحافي والسياسي بعقله المنفتح وذاكرته الثاقبة وقد وصفه الرئيس سعد الحريري بعد وفاته بـ «الفكر النابض بمحبة لبنان»، ورأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع أن «أسلوب عيشه خط تجريبي خاص، يصلح لأن يحتذى من شباب اليوم وصباياه». ومن لا يذكر عنفوان نصير الأسعد وحضوره الوهّاج في معراب بعد محاولة اغتيال جعجع في نيسان 2012، وتحديداً في اجتماع الأمانة العامة حيث أدلى بمداخلة وجدانية وتحليلية أصرّ فيها على تحرك شعب 14 آذار إزاء محاولة الإغتيال، متسائلاً «هل علينا أن نتفرج؟ عيب علينا أن نجتمع بعد مرور أسبوع على ما تعرّض له الحكيم». ولم يتردّد البعض بوصفه بـ «الماروني» أكثر من بعض موارنة الهوية والإنتماء!

وتحدّى الأسعد إملاءات الاحتلال، وكل أجهزته وماكينات إرهابه وقمعه بعد فترة الحرب. فانطلق مع سائر الجنود المجهولين المعلومين، عاملاً على تأسيس الحوار المسيحي- الإسلامي بين مختلف القوى الإستقلالية مقاوماً على طريقته، ومتطلعاً الى تحريرٍ كامل واستقلالٍ ناجز. ولهذا الغرض انخرط في ورشة التفاهم الوطني، وصولاً إلى إنتفاضة الاستقلال في الرابع عشر من آذار 2005. لم يكن صعباً على الإستقلالي الشيعي أن يوثّق التضامن متجاوزاً حدود الطائفيات والمذهبيات والحزبيات والمصالح الشخصية، مشدّدا على أن 14 آذار هي بجميع مكوناتها.

كان نصير الأسعد صلباً في قضيته الوطنية متهاوناً في جسده. كانت سخريته لاذعة أحياناً لكنّه لم يجرح أحداً في كتاباته، وروى عنه مرة رئيس تحرير جريدة «المستقبل» هاني حمود واقعة مضحكة: «عندما واجه الأسعد الدركي الذي أراد أن يساعده على النهوض من حفرة سقط فيها إبّان تظاهرة مطلبية ضد السلطة منذ عقود بقوله «لا حوار مع السلطة»!»

[نصير المحلّل

كان قراء البيك ينتظرون مقالته في 28 أيار 2012، لكن من سخرية القدر أن يُنشر في الصحف خبر نعيه.. فكان عنوان مقالته الأخيرة التي ختم فيها مشواره الصحافي مع استمرار مشواره النضالي من خلال أقرانه في 14 آذار، بتاريخ 21 أيار 2012 «نظام الأسد خطر تقسيمي داهم». ولم يغب نصير عن أي مرحلة من مراحل تعثّر الدولة أو تفوّقها، فكان القلم النابض بالدفاع عن الإستقلال وفي 12 أيار من العام 2005، أي بعد 3 أشهر على اغتيال الرئيس الحريري كتب «(..) فإن الصدق في قراءة الوضع يحتّم الاعتراف بأنّه لو لم يكن الحريري رأس المعارضة وقلبها، ولو لم يدفع دمَه على مذبح الاستقلال اللبناني الثاني لما كانَ هذا الإنجاز.»

وفي مقالاته، عرّى نصير الأسعد نظرية الممانعة التي استعملت لعقود طويلة للتغطية على مخططات الإطباق على لبنان، وكشف استغلال النظام السوري للبنان وقضية فلسطين التي تعلّق بها تعلقاً خاصاً والتزم بأحقيتها إزاء محاولات إلغائها المتواصلة منذ سنوات. بالعودة الى مسيرته وتحديدا بين العامين 1982 و1985، لعب نصير دوراً في التنسيق بين الرئيس ياسر عرفات ومن تبقّى من القيادات الفلسطينية في لبنان. وكان يعرف كثيرا عن تجربة الفلسطينيين، لكنه كان يردّد بتواضع «هناك من هو أكثر دراية بما حصل في التجربة الفلسطينية».

وفي العام 2010، خصّ المحكمة الدولية لمحاكمة قَتَلة الرئيس الحريري بمقالات عدة ختم إحداها بقوله «إكتملت الخطّة وجرى «تبكيلها»: كلّ ما ومن هو غير سوريّ أو حزب الله، هو إسرائيليّ ـ أميركيّ.. والمحكمة الدوليّة أوّلاً.» وفي العام 2012 شكّلت كتاباته رؤية تحليلية استباقية صريحة وواضحة لما حدث في طرابلس في بداية العام الحالي، فكتب في 21 أيار: «ما يُعدّ لطرابلس وللشمال عموماً من جانب النظام السوريّ أبعد وأخطر بكثير من الظاهر (..) وكذلك ينبغي أن يهبّ اللبنانيّون لدفن «النأي بالنفس».» وسأل في 17 ايار: «أيّ أمن في ظلّ قرار إسقاط الدولة؟ هنا هو جوهر الصراع السياسيّ: بين من قرّروا إسقاط الدولة ومن لا يزال لديهم رمق يدافعون به عن دولة».

في جريدة «المستقبل»، كان نصير الأسعد يمارس مهامه في مكتبه في الطابق الثالث كان يشبه خلية النحل، كان يسمح للكل بدخوله، بالأحرى كان مكتبه ملتقى الجميع، فيه يعمل ويساير ويضحك ويدخّن السجائر! لا يهدأ نهاراً وليلاً، يكتب، يوجّه، يتكلّم ويستمع في الوقت عينه! كان متواضعا وخجولا، قلّما كان يرتاح، فهو إما في الجريدة وإما في قريطم، والبيت كان يقضي فيه القليل من الراحة. كان نصير حارساً للكلمة الحرة التي كانت تنشرها الجريدة، فأبى في 8/9 أيار 2008 إلا أن يبقى في مكتبه في حين كانت الميليشيات تحاصر المبنى.

[نصير الوالد والأخ

لم يكن نصير الأسعد يخشى الاغتيال فهو رجل تمرد على السجن الطائفي ليقف في المكان الصحيح وبقي أميناً لتاريخه النضالي من أجل الحرية والمساواة والعدالة، ولم يتنكر للقيم التي نشأ عليها، فربّى عائلته الصغيرة المؤلفة من ثلاث فتيات وشاب على القيم ذاتها. كان يستغل نصير الوالد بعض أوقات الفراغ ليمضيها في المنزل، لم يكن يحبّذ الخروج كثيراً خصوصاً في الفترة الأخيرة، أما قبل ذلك فكان يصطحب عائلته الى المطاعم، وكان غالباً ما يمرّ يوم كامل من دون أن يراه أولاده. لم يكن متعلّقاً بمكان ما دون غيره، إلا أنه كان يعشق المائدة اللبنانية! يقول وائل الإبن الأصغر: «كان بابا يحدّثنا عن تجربته وعن المواقف التي واجهها، وكان كثيرا يتداول بقضيّتَي الشعبين الفلسطيني والسوري، وكان يطلب منّا أن نتمسّك بأفكاره الإنسانية، لكنّه في الوقت عينه كان يفضّل أن نبقى على مسافة من السياسة». ويتابع وائل «كان بابا يمزح وينكّت لم يكن جدّياً في كل الأوقات، قضى معظم وقته في الفترة الأخيرة معنا، كان لديه متّسع من الوقت، وكانت فرحته لا توصف بابنة أختي الصغيرة».

الكل مشتاق الى نصير الأخ والوالد، فشقيقه هادي الذي يصغره بثلاث سنوات فَقَده حينما قرر أن ينتقل نهائياً من سويسرا الى لبنان ليكون قريباً منه ليستعيد أيام الطفولة «نحنا ربينا سوا وكبرنا سوا» يقول هادي. ينطلق الأخ الأصغر من الصفوف النضالية الى قضايا الطلاب، وكون هادي الأصغر كان يحرص نصير على تخصيص «التفاتة حنونة»، ويخبر «كان قريباً مني على الرغم من المسافة التي كانت تُبعدنا، كان يحدّثني في السياسة وفي الأمور الخاصة».

«صعبة الواحد يقدر يحكي عن خيّو، كأني أتحدث عن نفسي» يقول هادي ويتابع «كان نصير على المستوى الخاص إنساناً في منتهى الطرافة، مهضوماً، مرحاً، وأنا أفتقده كثيراً اليوم، اتّخذت قرار عودتي الى لبنان قبل وفاته، فكّرتُ بأن «أبو النصر» موجود هنا وسنمضي وقتاً رائعاً معاً، لكنني اكتشفتُ أنها كانت صعبة عليّ إعادة التأقلم في هذا البلد، بعد 40 عاماً من الاغتراب». بالنسبة الى هادي «الغياب لا يعوّض، ومرور الزمن يصعّب قبول الموضوع، فنصير رحل فعلاً باكراً، وكان مندفعاً وملتزما بما هو مؤمن به، مهملاً صحّته، والنتيجة أن غيابه أحدث فراغاً كبيراً، لكن الفراغ موجود في كل مكان حتى في السياسة اليوم».

ولا يخفي هادي «المفاجأة الإيجابية» التي شعر بها حين «تعرّفتُ الى صحافيين من الجيل الشاب المتأثر بنصير». ويذكر هادي أن أخاه كان دائم الحديث عن رفاقه في قوى 14 آذار: «كان يخبرني عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري والرئيس سعد الحريري وعن علاقته بجورج بكاسيني وسمير فرنجية وفارس سعيد والياس عطاالله، وعن أبنائه فكان يطمئن الى كل واحد منهم أثناء وجوده في العمل، ليطمئن عمّا إذا وصل وائل الى المنزل وعن أحوال الفتيات».

اليوم، وبعد عامين على غيابه تصحّ في الوضع المتأزّم محلياً على الصعيد الرئاسي جملة كتبها نصير الأسعد قبل وفاته في أحد مقالاته «ولذلك بالضبط، فإنّ لبنان يجتاز أخطر مرحلة في تاريخه على الإطلاق، ذلك أنّه حتّى في زمن الحرب اللبنانيّة كان هناك هيكل دولة!»