المشنوق يبتعد عن اللغة المنحازة
هذه هي أبرز التحديات الأمنية لبنانياً
لم تعد أصوات المعترضين من الإسلاميين على التوقيفات لدى الأجهزة الأمنية، خافتة. علت الشكوى وصدحت أصداؤها في أرجاء العاصمة بعدما تخطت حدود طرابلس ومحيطها.
بعض المشايخ يطرقون باب وزارة الداخلية عتباً على «انحراف الخطة الأمنية عن مسارها»، وتهديداً باللجوء إلى خطوات تصعيدية في حال لم تُستجب طلباتهم. ويبدو أنّ مسار الأوضاع الأمنية قد يُنذر بتوّسع جغرافيا الاشتباك السياسي بين المنطق الجديد الذي تقارب فيه «الداخلية» الملف الأمني، وبين بعض المجموعات التي لم تتكيف مع متغيرات الداخل والاقليم.
عملياً، لم يتفاجأ أصحاب العقول الأمنية بـ«الصحوة الجماعية» للخلايا الإرهابية النائمة، بعدما كانت قد شهدت على مدى شهور ما بعد الولادة الحكومية، حالة سبات نسبي، بفعل «حقنة المسكنات» التي سددتها حكومة تمام سلام الجامعة في شرايين الوضع السياسي ـ الأمني.
ما يحصل خارج الحدود، وتحديداً في تلك البقعة المشتركة بين العراق وسوريا والأردن، حيث صارت الكلمة لـ«الإمارة الداعشية»، قد لا يعفي الساحة اللبنانية من ضريبة الدم، مهما اتسمت الخطة الأمنية التي تشرف وزارة الداخلية على تنفيذها، بالمتانة والحزم والجدية غير المسبوقة.
وبالفعل، فقد كانت تخوم الضاحية الجنوبية على موعد ليليّ جديد من مواعيد الدم والنار التي تضربها «أحزمة الموت» المتنقلة بين أحيائها، لتعيد المنطقة إلى حال الاستنفار الأمني، بعد فترة من الاسترخاء والطمأنينة، ولو المحدودة.
ليست مصادفة أن تتكدّس فجأة الملفات الساخنة المتصلة بأعمال إرهابية حصلت، أو قد تحصل، على طاولة المعنيين بالأمر: تفجير ضهر بيدر، مجموعتا الشمال والبقاع، ومن ثمّ انتحاريّ جزر القمر. ولكن هذا لا يحسم أبداً فرضية أنّ هذا الرباعي مربوط بشبكة واحدة، أو أقله فان انتحاريي «دي روي» و«نابليون» وموقوفي القبيات في عكار… يشكلون شبكة ارهابية واحدة.
صحيح أنّ توقيت هذه الأحداث جاء متزامناً، إلا أّن ذلك لا يعني وفق مصادر رسمية معنية بأنّ ثمة تنسيقاً عملياً أو عضوياً بين المجموعات. هو ببساطة ترابط سياسي له علاقة بالمناخ الإرهابي المسموم الذي انفجّر في العراق وراح يتوسع جغرافياً. ولا يعني ذلك أنّ هؤلاء «المشتبه بهم» يتبعون تنظيم «داعش» أو أحد فروعه اللبنانية، مع العلم أنّ التحقيقات لا تزال في بدايتها، ولم تصل إلى نتيجة ملموسة بعد.
لكن «الفورة الإرهابية» الحاصلة في المنطقة، من شأنها أن توقظ هذه الخلايا النائمة، لتشكل «موجة» متزامنة، ولو أنها غير متصلة ببعضها البعض بالكامل، كما أثبتت التحقيقات الأولية.
لم يتردد وزير الداخلية نهاد المشنوق مذ أمسك بـ«وزارة الوزارات» في «سرايا الصنائع» في التصدي لهذه الظواهر «الدموية»، فعلاً وقولاً، وعَنْون بها جدول أعماله في وزارة الداخلية. ابتعد الرجل عن لغة المواربة والاختباء خلف الإصبع، وقرر أن يلعبها «حتى النهاية»، فإما أن يحقق نجاحاً ناصع البياض، وإما يصاب بفشل مدوٍ، وهو ليس من المتعودين الا على كسب الرهان.
هو يعرف أنّ الوقوف بوجه هذه الحالات لن يكون سهلاً، وسيأتيه الاعتراض من جانب بيئته قبل غيرها. المصفقون والناقمون… كثر، سواء على الخطاب الذي تسلح به الرجل «كوزير داخلية لكل لبنان»، أم على صعيد الممارسات والانجازات، ولسان حاله أنه يتراجع خطوة الى الوراء.
ومع ذلك، فإنّ حملة التوقيفات الأخيرة لم يبلعها قادة المجموعات الإسلامية، لا سيما الشمالية منها، والتي راحت تحيل شكاويها إلى «تيار المستقبل» تحت عنوان رفع «المظلومية» عنها والمطالبة بفرض خطة أمنية متوازنة جغرافياً ومذهبياً!
في الحلقات الضيقة في «تيار المستقبل»، صارت المعطيات واضحة، ومنابع «الإرهاب اللبناني» لم تعد خفية على أحد. بالفعل، أبلغ المشنوق المشاركين في الاجتماع الأمني الاستثنائي الذي دعا إليه الرئيس تمام سلام إثر تفجير ضهر البيدر، أنّ الساحة اللبنانية تعاني من ثلاثة مكامن ضعف أمنياً، وهي على الشكل الآتي:
ـ جرود منطقة عرسال، التي يقال إنّها تحتضن أكثر من 2000 شخص، معظمهم مقاتلون من الجنسية السورية. صحيح أنّ الجيش يسعى إلى تطويق هذه المجموعة ومحاصرتها في بقعتها الجغرافية، إلا أنّ وعورة المنطقة واتساع نطاقها (طول الشريط الحدودي في هذه البقعة أكثر من 70 كلم)، يحولان دون القيام بعملية أمنية واسعة حتى الآن.
ـ مخيم عين الحلوة الحاضن لمجموعات إسلامية متنوعة الأطياف تتوسع نفوذاً على حساب «فتح». ملف يتابعه مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم بالتنسيق مع وزير الداخلية، وتم التفاهم مع الوزير الفلسطيني عزام الأحمد الذي زار لبنان مؤخرا على إنشاء قوة أمنية فلسطينية مشتركة تتولى الأمن في المخيم بالتعاون مع الأجهزة اللبنانية على أن تحظى بـ«شرعية الواقع» بما يتيح لها أن تمارس «سلطتها»، ومن المتوقع أن تعطي الحكومة اللبنانية الضوء الأخضر للقوة بعد التدقيق بأسماء ضباطها وعناصرها، وصولا إلى حذف المطلوبين للدولة اللبنانية.
ـ سجن رومية الذي تتولاه قوى الأمن الداخلي، وينتظر خطة معالجته الهادفة إلى ضبط أوضاعه ووقف القدرات التقنية لبعض الموقوفين والمحكومين، بعدما تحوّل إلى ما يشبه «غرفة عمليات إرهابية»، وهي مؤجلة لأسباب لوجستية، لأنها تحتاج إلى عناصر لا تزال غير متوفرة، ناهيك عن الضغط الأمني المتمثل بالتهديد اليومي للسجن بعمل ارهابي من جانب أكثر من مجموعة متشددة.
وفي هذا الإطار، يثني المشنوق على مجهود رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد والنائب العام التمييزي القاضي سمير حمود لتسريع وتيرة المحاكمات، وبالتالي حلحلة قضية التوقيفات.
على طاولة الداخلية تتكدّس الملفات والاحتجاجات. لكن ذلك لا يحرف البوصلة عن استراتيجية أمنية وطنية شاملة تضع نصب عينيها المخاطر والتحديات لا ما يريده هذا الطرف أو ذاك. احتجاجات بعض «المستقبل» أو «الحلفاء» قابلة للأخذ والرد. المهم هو الأمن السياسي الذي شكلت ولادة الحكومة عموده الفقري… ولا تزال.