Site icon IMLebanon

هكذا يستقوي «داعش»

هذا ليس فقط زمن تغيير الخرائط في الشرق الأوسط. إنه أيضاً زمن تغيير الشعوب وإعادة كتابة الهويات. تأملوا مشاهد قوافل النازحين من قراهم ومدنهم عبر الحدود، من الموصل باتجاه الإقليم الكردي. من حمص والقلمون باتجاه مناطق عكار والبقاع في لبنان. من حلب وإدلب باتجاه الأراضي التركية. ملايين البشر يتركون بيوتهم وأرزاقهم ويهربون إلى المجهول. يهربون من حكوماتهم ومن الظلم والقمع ومن الصواريخ والبراميل التي تهبط عليهم كل يوم، من حكومات جائرة اختارت أن تتمكّن في الحكم بدل أن تعمل على رخاء الناس وحريتهم وحقهم في العيش الكريم.

نحن نتحدث هنا عن دولتين تحديداً وعن نظامين يتحملان القدر الأكبر من المسؤولية عن هذه المآسي لو كان هناك من يحاسب. إنهما نظاما نوري المالكي وبشار الأسد. ليس قليلاً أن يترحّم أهل العراق على ديفيد بترايوس الذي عرف كيف يتعامل معهم وكيف يجنبهم الحرب الأهلية، في الوقت الذي لا يرى نوري المالكي في أهل بلده، بمن فيهم نائب رئيس الجمهورية، سوى مجموعة من الإرهابيين لا يستحقون سوى الموت، أو السجن في أيام الرحمة. ليس قليلاً أن يستنجد السوريون بالأميركي لإنقاذهم من رئيسهم الذي لا يرى فيهم سوى مجموعة من الجراثيم لا بد من تجفيف منابعها ليتسنى له البقاء في الحكم.

ويسألونك بعد ذلك: من أين أتى «داعش»؟ وكيف يعيش هذا التنظيم الإرهابي المتطرف في بلاد لم تعرف التطرف أصلاً، بل كانت مهداً لأفضل ما قدّم العرب من حضارة للعالم في الزمنين الأموي والعباسي، رحمهما الله. أليس من المفارقات أن سورية والعراق لم ينحدرا إلى الهاوية التي هما فيها الآن إلا في ظل هذا الحكم الطائفي الذي يتحكم برقاب الناس في البلدين من كل الطوائف؟ أليس من المفارقات أن لبنان، الذي كان مضرب مثل بحرّيته وقيمه في المنطقة، لم ينحدر إلى ما هو فيه اليوم إلا عندما تحكم بقراره الوطني واستقوى على مؤسساته مجموعة من الطائفيين والطارئين على العمل السياسي، لا يستقوون إلا بسلاح الخارج وأمواله، ولا يبيعون الناس سوى بضاعة الاغتيال والتخوين والعمالة لكل من يخالفهم الرأي أو يعترض على أسلوبهم في تدمير البلد وهدم ما تبقى فيه من مؤسسات؟

ها هي المشكلة هنا وليست في مكان آخر. وإذا كان «داعش» يستقوي ويتقدم، فإنه يستقوي ويتقدم بفضل هذه الأنظمة الطائفية. الخدمة مشتركة بين الجانبين. الأنظمة التي نتحدث عنها لها مصلحة في تصوير أهل السنّة كلهم على أنهم إرهابيون وأتباع لـ «داعش»، في الوقت الذي لا تقوم جيوشها بأي جهد لوقف زحفهم أو لقطع الطريق على خطابهم المذهبي، الذي يتغذى من التمييز المذهبي الذي تمارسه تلك الأنظمة. قوات بشار الأسد تتعاون مع «داعش» في سورية وتقصف كل طائر يطير في السماء باستثناء مواقع التنظيم الإرهابي. وفي العراق تنسحب قوات نوري المالكي بسرعة البرق من مواقعها التي يفترض أن تحميها في الفلوجة ثم في الموصل لتتيح لـ «داعش» التقدم، ولتعلن بعد ذلك، هي ومن وراءها: ها هو «داعش» يتحدث باسم السنّة الذين يحتضنونه.

أما «داعش»، فله مصلحة هو أيضاً في استثمار الفراغ السياسي والأمني لمصلحة مشروعه الطائفي والإرهابي، وهو يعلم كما الجميع أنه مشروع لا مستقبل له، خصوصاً أنه مشروع مرفوض بالدرجة الأولى من قبل البيئة التي يسمونها «حاضنة» للتنظيم. وإذا كان «داعش» يخدم أي هدف في هذه المرحلة، فهو من خلال قدرته على تفكيك دول المنطقة وتهجير شعوبها وتصوير السنّة من الذين يدعي «داعش» الحديث باسمهم، أنهم جميعاً على خطه ويدعمون خطابه الطائفي.

ولكم أن تحللوا بعد ذلك من الذي أنشأ «داعش» ومن يموّله وأي أغراض يخدم هذا التنظيم الإرهابي.