تسود بعض الأوساط السياسية نظريةٌ مفادها أنّ أيّ رئيس أفضل من الفراغ، وبما أنّ أيّ مرشح لا يمكنه أن يصبح رئيساً في ظلّ العقبة التي يمثلها الجنرال ميشال عون، فلا بأس وفق النظرية نفسها من وصول عون تجنّباً لهذا الفراغ.
مع اقتراب نهاية المهلة الدستورية لاستحقاق رئاسة الجمهورية برزت وجهتا نظر: الوجهة التي تخشى الفراغ فعلاً ربطاً بتجارب سابقة أدت إلى انزلاق البلاد نحو الفوضى، وتحرص على تجنب أيّ ثغرة تفتح الباب على عدم الاستقرار، والوجهة التي تتخوَّف من الفراغ عن سابق تصوّر وتصميم بغية ترهيب بعض المكوّنات في «14 آذار» لجرّها إلى التسليم بمرشحها، وإلّا الفراغ الذي يفتح الباب أمام «مؤتمر تأسيسي».
وعلى رغم أنّ الفارق كبير بين الوجهتين من زاوية خلفية ومرامي كل منهما، غير أنّ ما لا تدركه الفئة التي تخشى عن حق تداعيات الفراغ أنها تغطي وتشرّع وتسهّل أهداف الفئة الثانية التي كلّ همها تحقيق غايتها بإيصال مرشحها إلى رئاسة الجمهورية عن طريق الابتزاز الذي تقوم به والتخويف بتخيير 14 بين القبول بالسيّئ، أي مرشحها، وبين الذهاب نحو الأسوأ، أي إعادة النظر بالنظام.
وفي الحقيقة أنّ كلّ هذا التخويف لا أساس له من قريب أو من بعيد، لأنّ أحداً لا يستطيع جرّ البلاد إلى تعديلات دستورية من دون موافقة المكوّنات الأساسية، فضلاً عن أنّ «حزب الله» يدرك أنّ فتح النقاش في الأساسيات في هذه المرحلة لا يصب في مصلحته، خصوصاً في ظل الوضع السوري الذي ما زال معطلاً، ومن ثم الواقع الإيراني المعلق على نتائج المفاوضات في الملف النووي، وبالتالي ميزان القوى الخارجي لا يتيح له جرّ اللبنانيين إلى مؤتمر تأسيسي لانتزاع التعديلات التي تتلاءم مع أهدافه، ولا بل يخشى أيّ مؤتمر من هذا النوع، إذ يعتبر أنّ المجتمع الدولي يريد استغلال الانشغال الإيراني والمراوحة السورية لتدويل سلاحه بعدما نجح الحزب بلبننته من خلال طاولة الحوار وتعليق البند المتصل بهذا السلاح في القرار 1559.
فـ»حزب الله» الذي كان أول من طرح المؤتمر التأسيسي يتصدر اليوم طليعة المتصدين لهذا المؤتمر، وبالتالي المخاوف من أن يأخذ الفراغ البلاد إلى مؤتمر من هذا النوع ليست في محلها، ولذلك أيّ تنازل على مستوى رئاسة الجمهورية من قبيل أنّ أيّ رئيس هو أفضل من الفراغ يُعتبر جريمة موصوفة بحق رئاسة الجمهورية والمسيحيّين.
وأما المخاوف المتصلة بالوضع الأمني وانفلاته، فهي في غير محلها أيضاً، لأنّ الثنائية السنّية-الشيعية تتقاطع على ترسيخ هذا الاستقرار، خصوصاً بعدما لمس «حزب الله» أنّ لعبة حافة الهاوية التي كان يديرها عبر تشجيع التطرف في الساحة السنّية على حساب الاعتدال المتمثل بـ»المستقبل» لإخضاع السنّة انقلبت عليه ودخلت إلى قلب بيئته، ولولا دخول «المستقبل» على خط مواجهة هذا التطرف لكانت البيئة الشيعية ما زالت تدفع من لحمها الحيّ ثمن الخطأ الذي ارتكبه الحزب بحقها.
ومن ثم على رغم استبعاد الانفلات الأمني نهائياً، ولكن حتى لو حاول أحد الأطراف استخدام العنف كوسيلة لدفع «14 آذار» إلى التراجع عن سقفها الرئاسي، فما عليها سوى أن تتصلب بمواقفها، لأنّ هذا العنف سيرتد على الطرف الذي استخدمه تماماً كما ارتد في المرحلة السابقة.
ومن هنا، فنظرية أيّ رئيس أفضل من الفراغ، أو القبول بعون تجنباً لكأس الفراغ، مرفوضة نهائياً، لأنّ لا أساس لها سوى تغطية وصول عون أو إبقاء الهوّة بين الرئاسة والوجدان المسيحي قائمة، وبالتالي ليس المطلوب من «14 آذار» أن تعطل النصاب كما يفعل الجنرال عون غير العابئ بتداعيات خطوته على المستوى الشعبي والمسيحيّ والدستوري، إنما التمسك بإيصال مرشح من صفوفها، لأنه إذا كان يعتقد أنّ عبر تعطيله النصاب بشكل غير قانوني ودستوري سيدفع «14 آذار» إلى القبول به رئيساً، فهو واهم، كونه يتحمّل شخصياً مسؤولية تعطيل الاستحقاق الرئاسي.
ومن البديهي ألّا تكون «14 آذار» معنية بالضغوط الخارجية لإتمام الاستحقاق الرئاسي، هذه الضغوط التي يفترض أن تتركز على عون لتوفير النصاب وفتح اللعبة الديموقراطية بتحميل الكتل النيابية مسؤولية الاختيار بين أحد مرشحي «14» الثلاثة الدكتور سمير جعجع، الرئيس أمين الجميل والنائب بطرس حرب، وبين الجنرال ميشال عون، لأنّ الحركة الاستقلالية لن تتراجع عن حقها بإيصال مرشح من صفوفها.
فالمشكلة ليست عند «14 آذار»، خصوصاً بعد أن فتح جعجع الخيارات على مصراعيها، إنما كل المشكلة هي عند عون، والحل لا يكون على طريقة استبعاد «14» وعون، إنما الحل الديموقراطي الوحيد يكون بفتح مجلس النواب لاختيار أحد مرشحي الحركة الاستقلالية أو عون، أي بإقفال كل الخيارات الأخرى ووضع الكتل النيابية أمام مسؤولياتها لاختيار «8» أو «14 آذار».