العقدة هي أنّ لبنان الرسمي عاجز حتى عن تلبية هذا السقف العالي من مطالب «داعش». فبعض شروطها تتعذَّر تلبيته لضرورات داخلية، وبعضه لضرورات خارجية. وما تبقّى لا يكفي لإرضاء «داعش». إذاً، كيف الخروج من ورطة إحتجاز الرهائن العسكريين، فيما يبعث التنظيم الإرهابي برسائله الدموية المتتالية، إثباتاً لجدّية تهديداته؟
قد تكون فكرة الإستجابة لبعض شروط «داعش»، تلك «المعقولة» منها، قد راودت مسؤولين لبنانيين، إنقاذاً للعسكريين الرهائن. والحملة التي شنَّها ذوو العسكريين منطقيّة: إنّ حياة كلّ عسكري بطل تساوي جميع إرهابيّي الأرض. والدول الحريصة على جيشها تفتدي كلّ عسكري فيه بالعشرات أو المئات من المساجين أحياناً. وهكذا يمكن الحفاظ على الجيش ومعنوياته.
في المقابل، ثمّة مَن يقول إنّ الحفاظ على الجيش يكون بالحسم ضدّ الإرهابيين والذهاب إلى خطوات مختلفة أشدَّ قسوة، لكي لا يجرؤوا على تكرار فعلتهم، وإنّ الحفاظ على معنويات الجيش لا يكون بإسترضائهم.
لم يستطع لبنان أن يجد سبيله إلى واحدٍ من الخيارين، أو إلى خيار تسوية بين «الواقعية» و«المثالية». وهذا الفشل هو خصوصيّة لبنانية بإمتياز. لكنّ ثمَن الفشل هنا ليس بخساً، بل هو دم نخبة من العسكريّين الذين كانوا يقومون بواجبهم الوطني، دفاعاً عن الدولة والشعب.
ثلاثة شروط أساسية تطرحها «داعش» و«النصرة»: الإفراجُ عن الموقوفين والمساجين الإسلاميين، خصوصاً الأسماء القيادية وذات المسؤوليات العملانية المعروفة، وتوقُفُ المداهمات لمراكز تجمُّع اللاجئين السوريين، وإنسحابُ «حزب الله» من سوريا. وهناك عوائق كثيرة تعترض الإستجابة لهذه الشروط، ولو جزئياً. وفي عبارة أخرى، لا يمتلك لبنان قراره في هذا الشأن.
1- إنسحابُ «حزب الله» من سوريا: لن يرضخ «الحزب» لشرط في هذا الحجم الإستراتيجي، ولو كان حريصاً على حياة العسكريين. فـ»الحزب» يتكبَّد الخسائر، هو نفسه، من عناصره، بالعشرات أو المئات في سوريا، ولا يتراجع.
2- هناك إقتناعٌ في العديد من الأوساط بضرورة إنهاء ملف الموقوفين الإسلاميين. وهناك مَن يذهب إلى القول حتى بالإفراج عن عناصر متهمة بالضلوع في الإرهاب. فـ«داعش» وأخواتها تضمّ الآلاف من الإرهابيين، وما المشكلة إذا ازداد عددهم بضعة أفرادٍ يطلقون من سجون لبنان؟ أليس ذلك أفضل من خسارة نخبة من العسكريين اللبنانيين؟».
لكن هناك مَن يقول إنّ الأمر ليس بسيطاً إلى هذه الدرجة. فلبنان يحتجز هؤلاء الإرهابيين بناءً على تنسيق مع أجهزة عربية ودولية. وهذه الأجهزة هي التي قدّمت له المعلومات التي كشفت الإنتحاريين في الربيع الفائت، وهي على تنسيق دائم معه في ملف الإرهاب. ولذلك، يصعب عليه تسليم العناصر المطلوبة دولياً. والأحرى أن يجد سبلاً أخرى لتأمين الإفراج عن عسكريّيه.
3- يمكن أن يتعاطى لبنان بمرونة أكبر مع المداهمات التي ينفِّذها في مراكز تجمُّع اللاجئين. لكنه لا يستطيع أن يتلكّأ عن دوره كجزء من الشبكة الدولية المواجِهة للإرهاب.
لذلك، ما يمكن للبنان أن يقدّمه إلى «داعش» لا يرضيها لكي تُفرِج عن الرهائن. ويبدو أنّ المراهنة على الوسيط القطري لإيجاد تسوية إصطدمت بعدم تنازل لبنان تحت سقف معيَّن. ورداً على التعثُّر، بعثت «داعش» برسالة دموية ثانية، أشدّ تعبيراً من الأولى: نحن لا نمزح. وهذا إثبات.
لكن اللافت هو أنّ «داعش» تعمَّدت القول إنّ الجندي الشهيد عباس مدلج حاول الفرار، فعاقبته بالقتل. وفي تحليل بعض الخبراء أنّ هذا الإدعاء ربما يكون هدفه الإيحاء بأنّ «داعش»، وإن كانت جدّية في تنفيذ تهديداتها، فإنها قامت بذلك هذه المرة لضرورات معيّنة. وتالياً، ما زال الباب مفتوحاً للمفاوضة. ولذلك، يُفترض أن تبدأ قطر جولةً جديدة من الوساطات، ومعها أمنيّون ورجال دين وآخرون من لبنان وسوريا.
إلى أين ستقود هذه الوساطة التي يتجرَّع لبنان كأسها العلقمية؟ ما هي مفاعيلها السياسية؟ وهل تفتح خطوطاً كانت محرّمة حتى الآن بين الذين هم في خانة الأعداء في لبنان وسوريا وما بينهما؟ وهل سيدفع لبنان وعسكريّوه ثمَن نجاح الوساطة أم فشلها؟