كان لافتا لبعض الجهات ما انطوت عليه الاطلالتان الاعلاميتان الاخيرتان للامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله لجهة تبرئته الضمنية للسعودية من علاقتها بتنظيم “داعش” حين لمح الى ان هذا البلد يقيم على خشية مضمرة من هذا التنظيم الآخذ بالتمدد والصعود.
لا ريب في ان تلك الجهات توقفت مليا امام طيات هذا الكلام المخالف لتوجهات سابقة، ووجدت فيه أبعاداً عدة سيكون لها شأنها لاحقاً، أبرزها:
– ان نصرالله انما اطلق هذا الحكم المثير للانتباه استناداً الى معطيات واتكا ء على معلومات قد بلغته.
– او انه يعطي السعودية فرصة للتحلل من اي ارتباط مع هذا التنظيم الذي شيطنه الى درجة انه وضع خطره على قدم المساواة مع الخطر الاسرائيلي لجهة السعي الى تفتيت البلاد العربية وتمزيق نسيج مجتمعاتها وهو ما يفتح الباب لاحقاً لعمل ما مشترك لدرء خطر هذا التنظيم وكبح جماح اندفاعته بسرعة قياسية.
ان نصرالله يدرك ان مصطلح، ومفهوم، الخلافة التي اعلنها أخيراً زعيم داعش هو في جوهره مناقض تماماً لمنظومة المعتقدات السياسية والفقهية والدينية التي يقوم عليها الحكم في السعودية، لذا فان ساعة التصادم بين الطرفين آتية لا ريب فيها عاجلاً ام آجلاً.
– ان نصرالله يعي ان ثمة محوراً آخر ليس على وئام مع السعودية هو الذي يشكل حبل السرة لـ”داعش” ويمده بأسباب الحياة والنمو.
وفي كل الاحوال، ثمة اعتقاد بدأ يسري فعلا لدى دوائر القرار في 8 آذار وفحواه ان مرحلة السعي لمحاصرة خطر “داعش” قد بدأت لدى جهات غربية واخرى عربية، خصوصاً ان هذا التنظيم قد تمدد الى مناطق وتجاوز حدودا هي بالنسبة الى هذه الجهات خطوط حمر. وعليه كان ثمة رفض قاطع لتمدد “داعش” واخواتها الى بلدة عرسال، وقد مورست على هذا التنظيم ضغوط للخروج منها سريعاً بعدما اقدم على غزو هذه البلدة اللبنانية الطرفية وعينه على البقاء فيها وليس الخروج منها بالسرعة التي خرج فيها. وفي موازاة ذلك سارعت واشنطن لتحول دون وصول قوات التنظيم نفسه الى مناطق حكم الاكراد في شمال العراق من خلال قيام طائراتها الحربية بقصف يومي لمواقع تابعة لهذا التنظيم وتزويد الاكراد اسلحة متطورة.
وفي السياق نفسه سرت أخيراً في اجواء معينة معلومات فحواها ان ثمة بوادر لتنسيق امني سوري – اميركي بغية توجيه ضربات لاهداف تابعة لـ “داعش” في محافظتي الرقة والحسكة السوريتين استتباعاً للضربات التي شرعت واشنطن والبشمركة في توجيهها للتنظيم اياه في مناطق الموصل وسد الموصل وسنجار ومخمور. اذاً ثمة استنفار عربي – غربي – كردي قد بدأ للوقوف في وجه “داعش” او على الاقل تقنين تمددها لا سيما بعد ورود معلومات توحي بان هذا التنظيم في وارد التحفز لفتح مناطق اخرى خارج مناطق وجوده الحالية في العراق وسوريا وبالتحديد في اتجاه دول مجاورة لم تطأها اقدام مقاتليه بعد لا سيما بعد انجازاته وفتوحاته، العسكرية السريعة والكاسحة على حساب جيوش كان ينظر اليها على انها قوية مثل الجيش العراقي. ولا شك في ان هذا الاستنفار الغربي – العربي لجبه تمدد “داعش” قد شاكله استنفار ايراني مماثل عنوانه العريض امتصاص هادىء لآثار الضربة الصاعقة التي تلقتها طهران في منتصف حزيران الماضي على يد “داعش” بفعل الانهيار السريع لحلفائها الاقربين في بغداد، وكانت فاتحة الخطوات لاستيعاب هذه الهزيمة وتداعياتها الضغط الذي اطاح نوري المالكي بعد الانقلاب عليه من داخل حزبه، حزب الدعوة، الاعرق على الساحة الشيعية العراقية.
استسلام المالكي وانكفاؤه أخيراً عن صدارة المشهد السياسي الذي تصدره طوال 8 اعوام عدّتهما بعض الاوساط في بيروت ثمرة تقارب خفي اولي بين طهران والرياض، مما بعث لدى هذه الاوساط تفاؤلا جعلها تراهن على امكان ان ينعكس انفراجاً على الساحة اللبنانية ينهي مرحلة الشغور الرئاسي ومرحلة التعطيل ويمهد لاعادة تكوين السلطات السياسية ويضع حداً للتشنج والاحتقان الحاصل منذ زمن. البوادر الاولى لهذا الأمر وجدت هذه الاوساط ابرز تجلياته في عودة الرئيس سعد الحريري المفاجئة الى بيروت بعد غياب طويل. ومعلوم ان اوساط “حزب الله” وقوى 8 آذار عموما لم تهلل لهذه العودة للحريري، لكنها توقفت ملياً امام الكلام الذي ادلى به الحريري في اللقاء الذي جمعه برئيس مجلس النواب نبيه بري وعبّر فيه عن رغبته في الانفتاح وانه لم يعد الى بيروت ليفتح جبهات مواجهة مع احد بل هو مستعد لفتح قنوات تواصل مع الجميع. المهم ان هذه الاوساط ادرجت كلام الحريري في خانة العقلنة السياسية التي فرضتها تحديات مرحلة ما بعد احداث عرسال وما طرحته من تداعيات ومخاطر خصوصاً على وضع شارع “تيار المستقبل”، الا انها وجدت انه كلام غير كاف لبناء تصورات ورهانات جديدة، ويحتاج بالتالي الى خطوات عملية أعمق، من اولى بوادرها وقف الخطاب السياسي المؤدي الى التشنج . وفي كل الاحوال تعتقد الاوساط نفسها ان الخطاب الأخير للسيد نصرالله والذي خصصه بغالبيته لموضوع وحيد هو خطر “داعش”، قد نجح فعلا في تظهير هذا الخطر والقى الاضواء الساطعة عليه لا سيما بعدما اعتبره خطراً وجودياً لا ينبغي التعامل معه باستخفاف، واعدا باعطائه الاولوية في المواجهة، وهو ما شكّل احراجاً لجهات لم تكن ترغب في ذلك على الاطلاق. وبناء على ذلك فان السؤال المطروح هو: ماذا بعد؟واستطراداً هل سيكون خطر “داعش” الذي لم يعد خطراً فرضياً على الساحة اللبنانية بعدما ضرب ضربته الموجعة واللئيمة في عرسال، فاتحة مرحلة جديدة من التفاهمات والتقاربات على الساحة اللبنانية؟ ليس ثمة معطيات عملية توحي حتى الآن بذلك، لكن الثابت ان مرحلة ما بعد احداث عرسال قد بدأت، اي ان مرحلة الخشية من “داعش” صارت حقيقة لا يمكن نكرانها وتجاهلها بعد اليوم.