رحّب معظم اللبنانيين بقرار مجلس الوزراء إلغاءَ وثائق الاتصال ولوائح الاخضاع الصادرة عن الأجهزة الأمنية حتى تاريخه، والتي كانت تتم على أساسها سلسلة توقيفات عشوائية وغير قانونية بحقّ مواطنين «مشتبه» بقيامهم بأعمال مخلّة بالأمن، واصفين القرار بـ»الإنجاز التاريخي الذي يُنهي آخر معالم الوصاية السورية في لبنان».
في وقتٍ شكّل ما يُعرف بـ«وثائق الاتصال ولوائح الاخضاع»، موضع اعتراض شعبي باعتبارها صادرة عن جهة غير قضائية، ولا تستند إلى ركيزة قانونية معمول بها، كانت شريحة كبيرة من اللبنانيين تجهل معنى هاتين العبارتين، حتى أنّ عدداً لا يستهان به من الوزراء والمسؤولين لم يكن على علم بحقيقتها واستغرب الموضوع عندما طرحه وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق خلال جلسة مجلس الوزراء، علماً أنّ رئيسي مجلسي النواب نبيه برّي والوزراء تمام سلام كانا من أوائل الداعمين له.
الوثائق شكّلت أولوية
منذ تسلّمه مهماته الوزارية، يستقبل المشنوق يومياً مواطنين يشتكون صدور «اتصال أو إخضاع» بحقّهم، فيندفع لمساعدتهم وتحريرهم من هذه الأحكام غير القانونية، وهو يؤكّد لـ«الجمهورية» أنّ «هذا الموضوع شكّل أولى أولويّاتي لكنّني لم أتحدث عنه علناً، بل حرصت على مناقشته في الاجتماعات الأمنية ومجلس الدفاع الأعلى».
ويوضح المشنوق أنّ «توقيت قرار مجلس الوزراء جاء بعدما حظيَ بإجماع المكوّنات السياسية بلا استثناء، على اعتبار أنّه يصبّ في مصلحة الجميع ولا يخدم جهة ضد أخرى. فهناك إرادة لإلغاء اجراءات مرحلة الهيمنة التي تركت تداعيات سلبية على الحرية الشخصية مع محاولة بعض الاشخاص تصفية الحسابات والابتزاز عبر النص غير القانوني»، مشيراً الى أنّ «الهدف الأساس من هذا القرار هو حماية المواطنين وحماية سمعة المؤسسات الأمنية وتعزيزها وبناء الثقة بينها وبين المواطنين».
وإذ يلفت إلى أنّ «تطبيق القرار بدأ لحظة الإعلان عنه، فأعفيَ كل من صدرت بحقه وثيقة اتصال أو اخضاع، والتوقيفات لن تحصل إلّا على أساس بلاغ أو قرار قضائي»، يقول إنّ «الوثائق المتعلقة بالعمالة مع العدو الاسرائيلي لن تلغى لأنها تهدّد الأمن القومي، وإذا ثبت حصول أعمال إرهابية مستندة الى أحكام قضائية تبقى على ما هي عليه أيضاً»، لكن هؤلاء لا يتجاوز عددهم، بحسب مصادر مطّلعة، الـ 10 في المئة.
وتلفت المصادر إلى أنّ «وثائق الاتصال تصدر عن مديرية المخابرات في الجيش اللبناني دون سواها من الأجهزة الأمنية الرسمية، ولكن بلا إذنٍ قضائي، إذ إنّها تصدر بناء على معلومة أو «إخبارية» عن حادثة أمنية معيّنة مثل إطلاق نار، أو التخطيط لعمل إرهابي. ثمّ تُعمّم هذه الوثيقة متضمّنة معلومات أوّلية عن الحادثة المقصودة وتاريخ حصولها باليوم والساعة والمكان، بالإضافة إلى عبارة «أقدموا على ارتكاب فعل جرمي معيّن».
وترى المصادر أن «لا قيمة قانونية لهذه الوثائق، التي لا تستند الى دليل في أغلب الاحيان، وقد تشمل معلومات لغايات شخصية أو ثأرية. ومن غير الممكن التعرّف الى الشخص الذي يقدم هذه المعلومة لأنّ الاجهزة تتعهّد بإخفاء هويته»، مشيرة الى أنّ «هذه الوثيقة كانت كافية لاستدعاء الشخص الى التحقيق وتوقيفه وإحالته الى المحكمة العسكرية».
وتتحدث المصادر عن وجود «عشرات الملفات العالقة أمام المحكمة العسكرية، تستند فقط الى وثيقة اتصال، غير أنّ المحكمة حكمت ببراءة المدعى عليه اذا كان الاتهام مستنداً فقط إلى هذه الوثيقة». وتختلف «وثائق الاتصال» عن بلاغ البحث والتحرّي الذي تصدره النيابة العامة بمفردها لمهلة زمنية محدّدة لا تتجاوز الشهر، مع إمكان تمديده لشهرين، وذلك بحقّ أشخاص معروفي الهويّة، وفي مختلف الجرائم المعاقب عليها قانوناً».
لوائح الإخضاع
أمّا لوائح الإخضاع، فتوضح المصادر أنها «تصدر عن الأمن العام من دون الاستناد الى أي مسوّغ قانوني، وتشمل قضايا عدة بدءاً من مخالفات الخادمات الأجنبية الى تهمة التعامل مع اسرائيل، امّا الاتصال فيشمل مطلقي النار، وصولاً الى التعامل مع اسرائيل وتهريب سلاح الى سوريا».
ووسط تضارب المعلومات عن عدد وثائق الاتصال، أعلنت مخابرات الجيش أنّها تقارب الـ16 ألفاً، فيما تقول بعض المعلومات إنّ هناك ألف ومئة وثيقة في طرابلس وحدها، بينما أكد المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم أنّ عدد لوائح الإخضاع يبلغ 60 ألفاً.
وكان المشنوق قد لفت، خلال مؤتمر صحافي عقده أمس بعد ترؤسه الاجتماع الاستثنائي لمجلس الأمن المركزي، إلى أنّ «وثائق الإتصالات لطالما تداخلت مع صلاحيات القضاء، لكنّ إلغاءها يَحمي القوى العسكرية والأمنية ويوفّر لها مظلة من الإساءة»، لافتاً إلى أنه «في السابق كان يمكن الإفادة من أيّ وثيقة على لوائح الاخضاع لاتهام الاجهزة الامنية».
وإذ اعتبر أنّ هذا القرار يؤكّد «أن لبنان يعيش في مناخ من الحريات ويُخفّف من الاحتقان»، شدّد على أنّ «الحرية هي الوسيلة الوحيدة لحماية الدولة والوطن»، مؤكداً أنّ «ثقة السلطة السياسية في مجلس الوزراء مطلقة ولا مجال لأيّ خلل أو تهاون فيها والرهان على دور القوى المسلحة دائم». ولاحظ أنّ «القرار يُعيد الحق الكامل الى السلطة القضائية لممارسة دورها»، وأنّ «هذه الوثائق تداخلت مع صلاحيات القضاء وكان هناك شكوى دائمة منه».
صلاحية الأجهزة لم تلغَ
ونَفى المشنوق أن يكون القرار قد ألغى صلاحية معينة لدى الأجهزة، وقال: «ألغينا اللوائح التي تراكمت أعواماً طويلة، وهي بمعظمها غير دقيقة ومبرّرة»، جازماً بأنّ «الصلاحية لم تسلب، بل أوجدنا صياغة ملطّفة وأكثر دقة مع النيابة العامة التمييزية».
وأعلن أنه يسعى الى «تفعيل شراكة الأمن المسؤول بين المواطنين والأجهزة الأمنية لكسر الهوة والفراغ بين الطرفين»، معتبراً أنّ «احساس المواطن بأنّ حريتة كبيرة تريحه وتدعوه الى التصرّف بطريقة سليمة»، مشيراً الى أنّ «النيابة العامة ستتخذ الاجراءات القانونية لتنظيف اللوائح مع الإبقاء على الاسماء التي يوجد بحقّها مذكرات توقيف».
وفي المحصلة، لا شك في أنّ قرار مجلس الوزراء أراح أهالي طرابلس وساهم في تنفيس الاحتقان، بعدما كادت الوثائق تُشعِل المدينة وتُهدّد خطتها الأمنية. وفي هذا السياق، شكرت هيئة علماء المسلمين للمشنوق ووزير العدل أشرف ريفي، جهودهما لإلغاء «وثائق الاتصال» و«لوائح الإخضاع»، وطالبتهما بـ«إنهاء مأساة الشباب الموقوفين ظلماً في السجون ووضع حَدّ لسياسة تركيب الملفات وتضخيمها».
ويبقى السؤال: هل يعزّز إلغاء وثائق الاتصال ولوائح الاخضاع دور القوى الأمنية؟ وهل كانت هذه التدابير غير القانونية تحمي لبنان؟ أم أنّ اللبنانيّين سيتأكّدون أنّ الدستور والقوانين وحدها تحميهم؟ ألا نحتاج قوانين تشبه قوانين الطوارئ الموجودة في الدول المحيطة لتعزيز القوى الأمنية؟ لا شك في أنّ هذه التجربة الجديدة ستجيب عن هذه الأسئلة.