بعد كل الفضائح والأخطاء والاستقالات والتسريبات والشبهات، وسنّ القوانين حسب اتجاه الرياح، بعد التفريط في السلم الاهلي والتلاعب في استقرار المنطقة، بعد كل هذا الهدر في الوقت والطاقات والأموال، اهتدت المحكمة الخاصة بلبنان أخيراً الى «متهم» حقيقي، ملموس، مثُل أمامها بلحمه ودمه، وإن عبر الشاشة. لكنّها لم تعرف كيف تحتفظ به.
بدلاً من أن «تدلله» وترعاه، بدلاً من أن تشجّعه على التعبير عن نفسه، وتستمع إليه باهتمام، وتحاول أن تفهمه، على الأقل في الظاهر، لحفظ ماء الوجه، ها هي «تهشّله»، وتخسر فرصتها في أن تكون محكمة حقيقية في مواجهة متهم موجود، غير افتراضي. متهم قامت باختراعه أساساً، لمواجهة عجزها ومفارقاتها القاتلة وخلفيّاتها المشبوهة.
فقبل اللعبة المغشوشة وجاء إليها، لكنّها لم تحسن الاحتفاظ به. لقد وجّهت إليه تهمة «ممارسة الصحافة» بمسميات أخرى طبعاً، وراحت تحاكمه بلا قانون واضح. ضد روح الشرائع، وضد منطق القوانين في الدول الديمقراطيّة التي تحمي حريّة العمل الصحافي. ومع ذلك، جاءها صاغراً، رغم ما يملكه من أسباب للارتياب. رغم عبثيّة الموقف وما تنطوي عليه تلك العلاقة الفوقيّة، القسريّة، من إذلال، وقمع رمزي، وتهديد معنوي، وارهاب سلطوي، وابتزاز سياسي ومالي وأمني. جاء فقط كي يقول لها حقيقتها مواجهةً وجهاراً. فلم تجرؤ على الاستماع اليه، تلعثمت كطفل أخرق رغم العقل الخطير الذي يقف وراءها، ارتجفت كورقة في الريح رغم جبروتها وآلياتها المعقّدة وحصاناتها الدوليّة. لم يتسع صدرها لمرافعة كان من السهل عليها أن تحتويها وتحوّلها فولكلوراً لطيفاً للتوكيد على «عدالتها»…
أمام اتهامات الظلم والانحياز والمجازر وغياب العدالة والارهاب الاستعماري، في مرافعة زميلنا إبراهيم الأمين، بحق القوى المهيمنة التي تقف وراء انشاء المحكمة الدوليّة وفرضها علينا، لتكون أداة لاستبدادها وتسلّطها في المنطقة العربيّة، لم يجد القاضي ليتييري ما يقوله، سوى أن كل ذلك ليس من «اختصاصه». أي محكمة تلك التي لا تترك للمتهم أن يدافع عن نفسه؟ أي محكمة دوليّة تلك التي لا تهمّها الضحايا؟ ماذا يبقى منها ومن شرعيتها؟ أي قاض يخرج عن تحفظه وحياده ويصبح طرفاً في مواجهة المتهم، مسيئاً فهمه، مقاطعاً وساخراً ومحرّفاً ومحقّراً؟ ها نحن نعود إلى نقطة البداية: المحكمة العتيدة في مواجهة «الجديد» و«الأخبار»، ينطبق عليها قول الشاعر «وأنت الخصمُ والحكمُ».
أمام اتهامات الظلموالانحياز لم يجد القاضيالإيطالي ما يقوله
المحكمة تدّعي العمل من أجل معرفة الحقيقة بأي ثمن، ولو على حساب أمن الشعوب وثرواتها واستقرارها… وفي الوقت نفسه تسعى إلى تكميم الاعلام الذي يكشف الحقيقة على طريقته. نعم، محاكم الاستثناء لها منطقها الخاص، حقيقتها غير حقيقتنا، فهي كيانات مجرّدة، متعالية على الأفراد والدول والمؤسسات الوطنيّة، خارجة عن أي سياق واقعي، محلّي، واعتبارات ذاتيّة، وقوانين عضويّة، ومحتقرة لمصالح الجماعات والشعوب والأفراد. القاضي ليتييري وصل أمس، في محاورته مع رئيس مكتب الدفاع فرنسوا رو، حدّ ازدراء القوانين والاجتهادات الفرنسيّة التي تمنع تعيين محام للمتهم رغماً عنه. «لسنا في فرنسا هنا» قال ساخراً. أين «نحن» إذاً؟ كل المسألة هنا! غطرسة القاضي في التعامل مع رئيس تحرير «الأخبار» ليست مفاجئة. لكنّها دليل آخر، قاطع، يعزّز تخوّفاتنا وشكوكنا في حياد المحكمة الدوليّة وعدالتها. تلك المحكمة التي استلبت السيادة الوطنيّة، وتملك من القوّة والقدرة على سحق من تريد، كيفما تريد، بلا حسيب ولا رقيب، تذكّر بحكاية الذئب الذي اتهم النعجة بتعكير مائه. بما أنّه يريد أن يأكلها، ولديه القدرة على ذلك، فسيجد كل الحجج «المنطقيّة» لتبرير فعلته.
لقد سقطت ورقة التوت، بالأمس، بين مونتيفردي ولاهاي. لم يكن ينقص المحكمة الخاصة بلبنان إلا هذه المهزلة ـــ مهزلة تحقير صحافيين ومؤسسات اعلاميّة بتهمة النشر ـــ كي تثبت لنا وللرأي العام هشاشتها وانحيازها وأجندتها السياسيّة المشبوهة خلف غطاء «العدالة». عدالة الأقوى هي دائماً العدالة المحقّة. لكنّ ذلك لن يمنع الشرفاء وأصحاب القضايا العادلة من مقاومة الظلم حتّى اللحظات الأخيرة.