14 آذار إفتتحت البازار الانتخابي بالحديث عن حاجة لبنان الى رئيس “قوي” يعيد الاعتبار الى الطائفة المسيحية المهمّشة، والى قصر بعبدا الذي جرّده إتفاق الطائف من الصلاحيات.
في إحدى جلسات طاولة الحوار، حاول الرئيس ميشال سليمان عرض استراتيجية وطنية للدفاع مستوحاة من الدستور والقوانين ومسلتزمات العيش المشترك وقرارات الشرعية الدولية. وتوقع الرئيس أن يحلّ العرض الذي طرحه إشكالية سلاح “حزب الله”. ولكن كيف؟
جاء في إقتراح رئيس الجمهورية: “ضرورة التوافق على الأطر والآليات المناسبة لاستعمال سلاح المقاومة ولتحديد إمرته، ولاقرار وضعه بتصرف الجيش المولج حصراً باستعمال عناصر القوة، وذلك لدعمه في خططه العسكرية”. في تعليقه على إقتراح الرئيس، تحدث في حينه باسم 14 آذار النائب بطرس حرب، الذي إعترض على إعتراف الرئيس بالمقاومة كجسم مستقل عن الدولة.
وفي رده على العرض الذي تقدم به الرئيس ميشال سليمان، قال المتحدث باسم “حزب الله” إنه “مهما إزدادت أهمية الجيش فلن يتمكن من كسر العدو، لأن الشعب هو المدافع الأول عن الوطن. والمجتمع المقاوم هو الأساس في الاستراتيجية الدفاعية”. وكان بهذا الكلام يحدد مهمات الجيش المدافع عن الدولة ومؤسساتها… ومهمات المقاومة المدافعة عن الشعب الذي إنبثقت منه.
ويرى الفريق المحايد أن تنفيذ رؤية الرئيس يحتاج الى إلغاء الطائفية السياسية كما تنص المادة 95 من الدستور. وعندها فقط تنتقل مقاومة “حزب الله” من القوقعة المذهبية، كحزب يقتصر تكوينه على الشيعة، لتصبح مقاومة وطنية مشكَّلة من مختلف أطياف المجتمع اللبناني وطوائفه المتعددة.
ويرى المراقبون أن التطورات السياسية والعسكرية التي حدثت في سوريا، خلال السنوات الثلاث الماضية، قد حسمت هذا الاشكال المزمِن لمصلحة “حزب الله.” والسبب أنه تدّخل في الوقت الحرج لانقاذ النظام وتغيير ميزان القوى على ساحات المعركة. وهو حالياً يستعد للاشراف على عملية إعادة إنتخاب الرئيس بشار الأسد في منتصف حزيران المقبل.
ومن المتوقع أن يختار “حزب الله” فريقاً مدرباً، وموثوقاً، لملء الفراغ الذي سيتركه قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، الذي نقلته طهران الى العراق لدعم مرشحها نوري المالكي.
وفي رأي المحللين، فان إدارة باراك اوباما تُعتَبر المسؤولة الأولى عن بقاء نظام بشار الأسد، بسبب الخلافات القائمة بين وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل. فالأول يستند في موقفه الصدامي الى توصيات الجنرال ديفيد بتراوس الذي شغل منصب قائد القوات في العراق وأفغانستان. وكان يسعى الى تنفيذ خطة تسليح مقاتلي المعارضة السورية، الى جانب توسيع تدريبهم. كذلك طالب بضرورة تحديد أماكن محظورة للطيران، كالتي تقررت في حرب العراق.
وزير الدفاع هيغل، عارض مطالب زميله لأنها، في نظره، تورط بلاده في حرب إقليمية مكلفة كالحرب التي أغرقت الجيش في معارك الاستنزاف داخل العراق وأفغانستان. وقد وجد هذا الموقف السلبي تأييداً من رئيس الأركان الجنرال مارتين دامبسي، الذي إدّعى أن الاشتراك في الحرب السورية ستكلف الخزينة الاميركية خمسين مليون دولار يومياً. ووصفها بأنها حرب بلا نهاية كونها تستمد إستمرارها من إندفاع روسيا وايران.
بين هذين الموقفين المتعارضين، إتخذ الرئيس اوباما موقفاً متحفظاً إنتهى بالمصادقة على تزويد ثوار سوريا بسلاح نوعي متطور ضد الدبابات، وتوسيع خطة التدريب لمئة مقاتل كل شهر. وقد وافقت الادارة الاميركية على زيادة العدد الى ستمئة كل شهر، على أن يتم تدريبهم في الأردن وقطر.
منذ أسبوعين نُشرت على الانترنت أفلام تُظهِر الثوار في سوريا وهم يحملون صواريخ متطورة مضادة للدبابات والمصفحات. وأعلن قائدهم أن الصواريخ نُقِلت من ترسانات الجيش الاميركي. علماً أن السلاح المتطور يثير قلقاً في البنتاغون بسبب الخوف من إنتقاله الى أيدي جماعة “القاعدة” وأنصارها.
وتحاشياً لهذا المأزق، إكتشفت واشنطن نوعاً جديداً من الثوار الذين يحملون لقب “الاسلاميين المعتدلين.” وقد حصلوا على بعض الأسلحة وفق شروط مشدّدة. ويقدّر النظام السوري أن هذا الاختبار سيفشل مثلما فشل إختبار “طالبان المعتدلة” في أفغانستان.
حقيقة الأمر أن تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ناتج عن ثلاثة أسباب مرتبطة باستراتيجية السياسة الخارجية التي وضعها اوباما:
أولاً- إستقلال الطاقة، ومعنى هذا أن اميركا في سنة 2016 لن تستهلك نفطاً مصدره الشرق الأوسط، وإنما ستصبح أكبر بلد منتج للنفط في العالم… أكبر من روسيا ومن السعودية. وقد إتفقت مع كندا والمكسيك على التعويض عن أي نقص في هذه المادة الحيوية.
ثانياً- يرى اوباما أن سياسة سلفه جورج بوش قد فتحت للبلاد جرحاً نازفاً في أفغانستان والعراق. كما أن “الربيع العربي” كان بمثابة عملية مرهقة، أفسحت المجال لظهور ثلاث قوى غير عربية هي: ايران وتركيا واسرائيل. وعليه، قرر الرئيس الاميركي أن يتعامل مع الواقع حفاظاً على مصالح بلاده.
ثالثاً- من المُلاحظ أن مركز الاهتمام الدولي قد نقل مصالح الولايات المتحدة من الشرق الأوسط الى الشرق الأقصى. وهذا يعني أن واشنطن أصبحت مشغولة بتطور الصين والهند وتايوان وجنوب شرق آسيا.
ومثل هذا التغيير الواسع، في استراتيجية واشنطن الخارجية، أبعدها تدريجياً عن أصدقائها التقليديين في الشرق الأوسط كالسعودية ولبنان والبحرين. أما علاقتها مع الأردن، فهي باقية بفضل قوة الاستمرار. خصوصاً بعدما سقط المبرر الاميركي للحفاظ عليه سابقاً، كجدار واقٍ يمنع اسرائيل من الوصول الى نفط الخليج. حيال هذا التحول العميق، لوحظ أن واشنطن تتعاطى بعدم إهتمام مع إنتخابات الجزائر ومصر والعراق ولبنان. وكل ما ذكره مساعد وزير الخارجية، لاري سيلفرمان، كان من نوع رفع العتب. وقد ذكر، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، أن الادارة قررت الابتعاد عن لعبة الأسماء في إنتخابات الرئاسة اللبنانية، وإنفتاحها على كل الخيارات بما في ذلك تعديل الدستور، وإعطاء أولوية لتوافق اللبنانيين حول إسم الرئيس المقبل. وكان بهذا الاعلان يحدد مواصفات الرئيس المقبل بـ “التوافقية” المُستَبعَدَة في ظل الوضع القائم. والسبب أن السيد حسن نصرالله حدد، في المقابلة المسهبة التي أجراها مع جريدة “السفير”، خريطة الطريق لسنة 2014، ما لم تحدث مفاجأة تبدل في الوضع القائم.
قال إن برنامج رئيس الجمهورية المقبل يجب أن يوافق عليه “حزب الله”. وإن الحزب ملتزم إستمرار المقاومة ضد اسرائيل… وحماية نظام الأسد في سوريا.
وهذا معناه، بحسب قاموس “حزب الله”، إبعاد كل المرشحين الذين يرفضون الانصياع لهذا المنطق… وإنتخاب رئيس يتبنى شعارات المقاومة، ويسمح بعودة النفوذ السوري الى لبنان.
ويبدو أن هذا الاملاء السياسي أنتج ردود فعل غاضبة لدى الكتل المنتمية الى السنّة والمسيحيين والدروز، وكأن إنتصار نصرالله في سوريا حقق له إنتصاراً آخر في لبنان. وقد تبدّت هذه الحقيقة للجناح المعتدل في “حزب الله”، الأمر الذي دفع بنائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الى إنتهاج خط مهادن يساوي بين اللبنانيين، ولا يميّز طائفة عن أخرى.
وفي لقائه مع أهالي منطقة الشياح، قال لهم الشيخ قاسم: “يوجد في لبنان توازن دقيق بين ما يُسمّى 8 آذار و14 آذار. لا هم أكثرية ولا نحن أكثرية. ولو إفترضنا العكس، فان طبيعة التوازنات لا تسمح بالغلبة، لأننا بذلك يمكن أن نوجد حالاً من الصدام لا ينتهي. ويبقى التفاهم هو الخيار الوحيد للوصول الى نتيجة مُرضية في لبنان”. وزاد على ذلك: “إستقرار لبنان هو مطلب إجماع يلتقي حوله الاميركي والعربي واللبناني من جماعة 8 و14 آذار، لأن الفوضى يمكن توظيفها لمصلحة الأزمة السورية. والكل لا يريد ذلك”.
وعلى الرغم من تلطيف لغة الأمر والاملاء التي تحدث بها السيد حسن نصرالله، إلا أن مرشحي الرئاسة توقعوا ترجمة كلامه الى العمل على تأجيل الانتخابات الى ما بعد الخامس والعشرين من أيار المقبل. أي الى منتصف حزيران المقبل، موعد إنتخابات التجديد للرئيس بشار الأسد. ومن الطبيعي أن ينعكس إنتصار “حزب الله” في سوريا على المناخ السياسي اللبناني بحيث يبتسم الحظ لمرشح الحزب الذي بقي إسمه سراً حتى اليوم.
أما السيناريو الذي يراه المشككون بدعم “حزب الله” للحليف العماد ميشال عون، فيتلخص بالتأجيل المتواصل بحيث يقع لبنان في الفراغ السياسي، تماماً مثلما حدث بعد إنتهاء ولاية الرئيس اميل لحود. يومها تولت حكومة فؤاد السنيورة ملء الفراغ، مثلما قد تتولى حكومة تمام سلام المهمة ذاتها في حال تكررت تلك السابقة.
الاميركيون يستبعدون حدوث ذلك الفراغ لأنهم عازمون على مصالحة السعودية وايران، وجدول الأعمال يتضمن زيارة الرئيس حسن روحاني الى المملكة. وفي تقدير واشنطن أن السعودية تملك في لبنان قوة الرفض، مثلما تملك ايران بواسطة “حزب الله” قوة الفرض. وهذا يقتضي تعاون هاتين الدولتين من أجل إنتخاب رئيس لبنان الثالث عشر!