لليلة واحدة من موسم المونديال القصير، لم يكن لبنان منعزلاً عن العالم. فما يجمع بين البرازيل ولبنان جالية لبنانية ومونديال وتحدٍّ كروي فازت به البرازيل خمس مرات، تليها إيطاليا بأربع مرات، وعلى الرغم من ذلك فإن المنافسة لا تحتدم إلا حين تلتقي البرازيل بألمانيا. شاشة أعادت لمّ شمل اللبنانيين، لكن ليس لوقت طويل، تربّعوا أمامها مع زينتهم المونديالية، حتى «الداعشيون» كانوا مشغولين بمتابعة المباراة، فسبب الجَلسة هذه المرة لم يكن انفجاراً، ولا أعمال شغب وعنف.
ليلة «البرازيل وألمانيا» كانت ليلة لبنان كلّه بحلوها ومرّها. من المشجعين من انتكسوا فنكّسوا أعلامهم، إنها نكسة رياضية أقسى بالنسبة الى بعضهم من «نكسة 1967»، وليست النكسات السياسية الفلسطينية والنكسات العربية المتلاحقة في شيء، إلا في ما أراد اللبنانيون إلباسه ثوب السياسي-الحزبي الضيّق، فتبادلوا «أوراق النعوة» ومشوا في بعض طرق بيروت ينادون على مكبّرات الصوت «وينك يا نايمار؟» ويسألون «في حدن برازيلي هون؟»
طبعاً كان مشجّعو البرازيل قد انصرفوا الى النوم منذ ما بعد الشوط الأول، فقد أُحبِطوا وإن كان منهم من توقّع خسارة وغَلَبة متوازنة نوعاً ما، فقد أدركوا بأن الاعتماد على شخص في الفريق لا يحقق الربح والانتصار، ولا يمكن للتشتت أن يصنع فريقاً موحّداً، فكيف به إذا كان الوطن لم يجتمع أبناؤه على «قلب واحد؟».
قد لا تصحّ هنا الجملة الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في لبنان فيجب أن نعرف ماذا في البرازيل»، كذلك لم يكن ما حصل في لبنان يشبه ما حصل في ألمانيا، فالماكينات الألمانية «فشّت خلق» المشجّعين الألمان وانتشلتهم من حالة اليأس التي أدخلتهم فيها السياسة اللبنانية والتقاعس العربي تجاه الحروب التي تتنقل بين سوريا والعراق وفلسطين تلامس تداعياتها لبنان.
الساحات لم تتّسع لفرحة مشجّعي المانشافت، فمن زمن لم يشهدوا على تحدّ يأتي بنتيجة غالب ومغلوب، على عكس القاعدة التي أرستها معادلة «لا غالب ولا مغلوب» على الساحة السياسية اللبنانية، هم الغالب والبرازيل هي المغلوب، ها قد ظهرت نتيجة مباراة كروية، ما يعني أن «العالم الخارجي» غير مبنيّ على التسويات والالتزامات. البرازيل خسرت على أرضها وفي عقر دارها، لم تكن الوساطة هي التي حملت ألمانيا الى نهائي كأس العالم، ولا الرشاوى هي التي قرّبت الكأس المرّة من البرازيل. وكان مشجّعو ألمانيا في لبنان أكثر ابتهاجاً من المواطنين الألمان أنفسهم، كأنما كانوا يركضون في الملعب ويسجّلون الأهداف، فيما هم مجرّد متفرّجين!
في لبنان انتشرت «أوراق النعوة»، المجهّزة «عن سابق تصوّر وتصميم»، كأنما النتيجة أتت معلّبة من مشجّعي المانشافت. خرج اللبنانيون من السياسة والطائفية والتفجيرات المتنقلة شكلياً، فقد جهّزوا ما يستعيضون به عن يومياتهم، فيتمثّل كل حزبي برئيس حزبه حتى في الرياضة، وعلى هذا الأساس يسعى الى «الانتقام» من مشجّعي الفريق الآخر.. التفجيرات استعاض عنها بالمفرقعات، فكسر «القجة» التي جمع فيها المال منذ بداية العام، واشترى حاجته من المفرقعات و«فوّل» سيارته بالوقود لضرورات «المواكبة»، ولم يتردّد من لزِم منزله بإطلاق النار احتفالاً بالنصر الكبير!
نجح المونديال في كسر «تقاليد» الأزمة الاقتصادية في لبنان، ونجحت المنتخبات العالمية في «جهودها» المبذولة لإعادة الألفة بين اللبنانيين حيث فشل الساسة اللبنانيون. 128 نائباً، ليس كلّهم طبعاً، بل المعطّلون منهم فقط، غير قادرين على الاجتماع للإتيان برئيس جمهورية للبنان، فيما يستحوذ 11 لاعباً من أي فريق كان على قلوب اللبنانيين لينسيهم معاناة شركائهم في الوطن ونار الأسعار التي تكويهم وخطر التفجيرات التي تلاحقهم.
العالم كلّه اجتمع على التحدّي، ولزمن بعيد لم يكن لبنان جزءاً من هذا العالم. هذا هو المطلوب، ليت المونديال يتكرر كل عام ليتلهّى اللبنانيون بأخباره كل يوم، فيدرك السياسيون في لبنان أنهم بذلك لن يكونوا محطّ اهتمام شعبهم، فالعالم يتقبّل نتائج الخسارة والربح، فيما البعض في لبنان يريد أن يكون الرابح دوماً إن ليس بالانتخاب، لغياب المباراة أو الاختلاف على قواعدها، فبالسلاح.
أثبتت كرة القدم بحدّ ذاتها أنها أقوى من أي سلاح وأي تهديد وأي خلاف.. وأثبت اللبنانيون أنهم لا يحتاجون الى المستحيل ليفرحوا ويموّهوا، فحبّذا لو تصل الفكرة الى السياسيين في لبنان، فهم أيضاً من المتفرّجين على المونديال، تقبّلوا الخسارة واغتبطوا للربح، في استحقاق، على بساطته، لا يقبل منهم تدخّلاً أو تهديداً أو مبادرة. في المونديال العالم يلعب ولبنان ينتصر.